أوصى
الإمام الشافعي -رحمه الله - يونس بن عبد الأعلى يوماً بقوله : " يا يونس، إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه، فإياك
أن تبادره بالعداوة، وقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن القه، وقل له :
بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلغ، فإن أنكر ذلك، فقل له : أنت أصدق
وأبر، لا تزيدن على ذلك شيئاً، وإن اعترف بذلك، فرأيت له في ذلك وجهاً لعذر فاقبل
منه، وإن لم تر ذلك، فقل له : ماذا أردت بما بلغني عنك؟!
فإن
ذكر ماله وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهاً لعذر، وضاق عليك المسلك،
فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار : إن شئت كافأته بمثله من غير
زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى، وأبلغ في الكرم، لقول الله تعالى :
» وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله« .
فإن
نازعتك نفسك بالمكافأة فتفكر فيما سبق له لديك من الإحسان، فعدها، ثم ابدر له
إحساناً بهذه السيئة، ولا تبخسن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة، فإن ذلك الظلم
بعينه يا يونس ، إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب، ومفارقته سهل
" .
***
لعلك
، أخي في الله ، حين تقرأ هذه الوصية ، تدرك حقيقة الأخوة ، عند سلفنا الصالح ،
ومكانتها العظيمة في نفوسهم ، وحرصهم البالغ في المحافظة عليها ، فأنت ترى في هذه
الوصية الكريمة خطة رائعة ، يرسمها شيخ لتلميذه ، يعلمه فيها كيفية الحفاظ على
الأخ ، عند المحكات ، وانتشار الشائعات ، وسعي الوشاة .
وتدرك
أيضاً كم نظلم أنفسنا وإخواننا ، حين نصرم حبل الود ، ونقطع العلاقات، ونؤسس
للعداوات ، بسبب كلمة نقلت ، الله أعلم بحقيقتها ، دون أن نكلف أنفسنا عناء التبين
والتثبت ، فسرعان ما تنقلب المودة إلى بغضاء
، والحب إلى كراهية ، والصداقة إلى عداوة، والإحسان إلى إساءة .
لقد
هانت على كثير منا صداقات أيام وسنين، حين تغيرها لحظات غضب وتعصب، ومنهج الكرام
قبلنا، ماقاله بعضهم حين تلفظ أحد الناس أمامه بكلمة انتقص فيها شأن أخ له
:»مه لقد تلمظت بمضغة طالما لفظها الكرام«.. ومنهج الأحرار، عبر عنه أحدهم بقوله:"الحر
من راعى وداد لحظة " ، فإلى من تشكو لحظات الوداد، وساعات الوصل، وسنوات
الصفاء، حين تصبح فريسة سهلة لسهام طائشة، وأفواه عفنة، وألسنة سليطة؟!
فأين الإخوة
.. الذين يحفظون وداد لحظة ، وصحبة ساعة ؟!
أين الإخوة
.. الذين يبقون على الأخ ، ويديمون وصله؟!
أين الإخوة
.. الذين يغفرون الزلات ، ولا يتخذونها وسيلة وسبباً للهجران ؟!
أين الإخوة
.. الذين يكافئون السيئة بالحسنة، ويعفون؟!
أين الإخوة
.. الذين لا يبخسون الحسنات، ولا يبرزون السيئات؟!
أين الإخوة
.. الذين لا يظلمون الصديق، ولا يفرطون به، ويسارعون في التماس الأعذار؟!
أين الإخوة
.. الذين يشدون أيديهم بالصديق ، لعلمهم أن اتخاذه صعب، وفقدانه سهل؟!
أين الإخوة
.. الذين كثرت صورهم، وتعددت أشكالهم.. يلقاك أحدهم بوجه أبي بكر أو عمر، وبقلب
فرعون وأبي جهل ..؟!!
أخي
في الله ..
أيها
الأخ الكريم.. إن كان لك أخ تختلف معه فشد يديك به..
وأسس
علاقتك به على الحب والصفاء والنصح .. واحذر أن
تكون على الغش والخداع.. أو على أساس عداوة الآخرين .. على قاعدة عدو عدوي
صديقي.. فإنها باطلة لا تدوم ..
ما
أروع مقولة الشافعي ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة..؟!
لقد اختلف
رحمه الله ، مع أحدهم في مسألة ، فما كان
من الإمام ، وقد لقي صاحبه هذا بعد جلسة الحوار والمناظرة التي اختلفا بها، وكما
يحدّث صاحبه نفسه، إذ يقول : " ما رأيت أعقل من الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ،
ولقيني فأخذ بيدي ثم قال : يا أبا موسى : ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق
في مسألة..؟! ".
لقد
كان ميدان الحوار وما يزال وسيبقى الامتحان الأصعب في حياة الداعية ، الذي يكشف عن
طيب معدنه ، ومتانة أخلاقه ، وأصالة منبته ، وجودة تربيته ، إنه امتحان لصدق
انتمائه، وعمق إيمانه ، وشمول فهمه ، وهو أيضا الميدان الأرحب لتجليات الداعية في
الكشف عن مواهبه ، وحسن أخلاقه ، وسمو أهدافه ، ونزاهة ألفاظه ، ومدى تسخير طاقاته
في خدمة هدفه ، من حيث التسابق والتنافس في تقديم الأنفع ، واختيار الأفضل ،
والانحياز إلى الحق..
والحوار
علامة نجاح وتوفيق ، فالذين ينجحون في ميدانه ، ويحرصون على أركانه ، فيخرجون منه
مؤتلفي القلوب ، سليمي الصدور، لا شحناء وبغضاء ، أو حقد وكراهية، يؤكدون بذلك
سلامة منهجهم ، وصدق توجههم ، واستقامة مسيرتهم .
فالحوار
منهج قرآني رفيع ، أدب رباني جميل ، وخلق نبوي كريم ، أكده القرآن في كثير من
الصور والمشاهد الحوارية التي تعددت أطرافها وتباينت، ففيه مشاهد حوارية لله تعالى
مع ملائكته وأنبيائه ورسله، بل ومع إبليس عليه اللعنة.
وفيه
مشاهد حوارية بين الأنبياء وأقوامهم وذويهم ، بالإضافة إلى تلك المشاهد الحوارية
الرائعة ، التي حفظتها لنا السيرة النبوية العطرة.. كل ذلك كي يؤكد أهمية الحوار،
ويركز معالم نجاحه، أسس بنيانه.. واعتماده شعاراً مع الآهل والاخوان، وطابعاً
متميزاً في أسلوب الدعوة والتعامل مع الآخرين..
ولما
كان الحوار امتحاناً صعباً للنفوس، فما اكثر الذين يسقطون في حلباته، ببيان
حقيقتهم، حيث يستبد بهم الغضب، ويسيطر عليهم الهوى، ويشتط بهم العجب والغرور،
ويأخذهم التعصب كل مأخذ فيتهمون النيات، ويقدحون السرائر ويمتهنون الآخر، فيصولون
ويجولون بأصوات مرتفعة ونبرات حادة، وألفاظ نابية قاسية، تذهب هيبة الحوار، وتضيع
فائدته المرجوة بل تحوله إلى نار محرقة لا تبقي ولا تذر.. غير الشحناء والحقد
والكراهية.
لهذا
كله يأتي تساؤل الإمام الشافعي - رحمه الله - ، بجماله وجلاله ، وروعة بيانه ،
وصفاء إيمانه ، ألا يستقيم أن نكون إخواناً ، وإن لم نتفق ؟!
إن
الحوار ضرورة في البناء والعطاء ، والخلاف وارد ، وأمر لازم ، لاختلاف العقول
وتفاوت المدارك.. فالمطلوب إن تتسع صدورنا، فلا يصح ( للصدر إلا واسع الصدر) وتعلو
بنا هممنا ، وتسمو بنا أخلاقنا ، فتختلف آراؤنا ، ولا تختلف قلوبنا ، فنبقى أخوة
أحبة .. فاختلاف الرأي لا يفسد للود قضية .
وقد
تحدث شيخ الإسلام عن صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنهم " كانوا
يتناظرون في المسألة مناظرة مشورة ومناصحة ،وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية
والعملية ، مع بقاء الألفة والعصمة ، وأخوة الدين " .
وعلى
هذا سار سلفنا الصالح ، فقد اختلف الإمام الليث بن سعد مع ربيعة – رحمهما الله –
في مسائل كثيرة ، وهذا الخلاف لم يمنعه من إنصاف الرجل ، والشهادة له بذكر مناقبه،
فقد كتب يقول : … ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير ، وعقل أصيل ، ولسان بليغ
، وفضل مستبين ، وطريقة حسنة في الإسلام ، ومودة صادقة لإخوانه عامة ، ولنا خاصة..".
0 التعليقات:
إرسال تعليق