تحديد يوم عرفة إذا اختلفت المطالع ~ مدونة الأخوة

a

عن الموقع

span id="st_finder">

تابعنا عبر البريد

الجمعة، 11 أكتوبر 2013

تحديد يوم عرفة إذا اختلفت المطالع

|



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين ، وبعد :

فهذا بحث متواضع جمعته على عجالة بعد طلب من أحد الإخوان الكرام ممن لا يسعني رده في أن أجمع ما يمكنني جمعه حول مسألة كثر فيها الجدل ، واحتد فيها النقاش ، وهي : ( مسألة تحديد يوم عرفة إذا اختلفت المطالع ) ، فأجبته بما تيسر لي ، وهذا جهد مقل ، فمن رأى في البحث نقصاً أو خللاً فليكمله و يصوب ما فيه من زلل بعد البحث والتحقيق ..

وقد جعلت الموضوع في أربعة مباحث :

المبحث الأول : التمهيد لهذه المسألة المراد بحثها .

المبحث الثاني : أقوال أهل العلم حول هذه المسألة و حجة كل قول .

المبحث الثالث : مناقشة أدلة الفريقين والردود عليها .

المبحث الرابع : القول الراجح في هذه المسألة .

والله أسأل أن ينفع بهذا البحث ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، إنه سبحانه جواد كريم ، رؤوف رحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المبحث الأول :

التمهيــد

لم أطلع في حدود بحثي على قول لأهل العلم قديماً حول هذه المسألة بعينها فضلاً عن التفصيل فيها ، إلا لمحات يسيرة في بعض المؤلفات ، وإنما كان الخلاف بينهم في بعض المسائل التي لها تعلق بهذه المسألة ، أو بعض الأقوال التي ظاهرها متعلق بهذه المسألة سيأتي ذكرها في ثنايا البحث إن شاء الله ، ولعل من أهم تلك المسائل مسألة اختلاف المطالع ، وكان بحثُ الفقهاء في هذه المسألة عاماً في كل الشهور من دون تفريق بين شهر وآخر ، إلا تنبيه ذكره ابن عابدين في " حاشية رد المختار " أن شهر ذي الحجة يعتبر فيه اختلاف المطالع دون غيره من الشهور ، وهذا يخالف تماماً قول بعض العلماء المعاصرين الذين يقولون باختلاف المطالع في جميع الشهور ما خلا شهر ذي الحجة !! ولا أعلم أحداً من الفقهاء القدامى ممن كتب في هذه المسألة و تعرض لها ذكر ما ذكر العلماء المعاصرين !

ولهذا لا تجد في ثنايا فتاوى أهل العلم المعاصرين قولاً مأثوراً عمن قبلهم من أهل العلم ، إلا محاولة هزيلة فيها لي وبتر ، وهي ما ذكره أحد الأفاضل عن ابن العربي في " أحكام القرآن " ( 1 / 143 ) ، ولكنه كان نقلاً في غير محله ، وسيأتي التعليق عليه في مناقشة قولهم ، وقد قرأت بعض الفتاوى لأصحاب هذا القول فرأيت أن غاية ما يستدلون به أن يوم عرفة هو اليوم الذي يقف فيه الناس بعرفة .

ومن أجل هذا التفريق اعتبرت الخلاف في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم المعاصرين ، وإن كانت المسألة في نظري داخلة في عموم مسألة اختلاف المطالع ، وأرى أنه ينبغي أن تبنى هذه المسألة على أصل الخلاف المعروف في مسألة اختلاف المطالع ، ومن ثم تخرج هذه المسألة عليه .

وقد حاولت جاهداً جمع أدلة الفريقين ، مع العلم أن بعض هذه الأدلة لم يستدل بها أصحاب الفريقين ، وإنما ذكرتها اجتهاداً مني ، وصدرتها أحياناً بقولي: ( قد يحتج لهذا القول ) ، وقد أذكر الاعتراضات عليها إن وجدت ، وذلك كله على حسب فهمي ، والله الموفق وهو الهادي إلى سبيل الرشاد .
المبحث الثاني :

أقوال أهل العلم وأدلتهم


اختلف أهل العلم المعاصرين حول مسألة تحديد يوم عرفة إذا اختلفت مطالع بعض البلاد عن موقف الناس بعرفة على قولين ( انظر أقوال بعضهم في الملحق ) :

القول الأول : أن يوم عرفة هو اليوم الذي يقف فيه الحجيج بعرفة ، وأن الناس تبع لهم في تحديد هذا اليوم ، وممن رجح هذا القول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - ، ولجنة الإفتاء المصرية ، و الشيخ فيصل مولوي ، والشيخ حسام الدين عفانة ، والشيخ عبد الرحمن السحيم - حفظهم الله - ، وآخرون .

وأدلة هذا القول ما يلي :

1 –
أن المقصود بيوم عرفة هو اليوم الذي يقف فيه الناس بعرفة ، وفي ذلك عدة أحاديث منها :

أ / عن عطاء قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أضحاكم يوم تضحون ) وأراه قال : ( وعرفة يوم تعرفون ) ، أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 5 / 176 ) والشافعي في " الأم " ( 1 / 264 ) عن عطاء مرسلاً ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " ( 4224 ) .


ب / عن ابن المنكدر ، عن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عرفة يوم يعرف الإمام ) ، أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 5 / 175 ) ، قال ابن حجر في " التلخيص " : " تفرد به مجاهد قاله البيهقي ، قال : ومحمد بن المنكدر عن عائشة مرسل ، كذا قال ، وقد نقل الترمذي عن البخاري : أنه سمع منها . " أهـ .

قال الشيخ عبد الله الجبرين في في تحقيقه لرسالة الحافظ ابن رجب " أحكام الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة " ( ص 24 ) : " .. إسناده ضعيف، محمد بن إسماعيل- وهو الفارسي- ذكره ابن حبان في الثقات 9 / 78 وقال: '' يغرب ''. وانظر لسان الميزان 5 / 77. ومع ذلك فقد صححه الشيخ أحمد شاكر في رسالته: " أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعا إثباتها بالحساب الفلكي " ( ص 26 ) " اهـ .

ج / عن مسروق أنه دخل على عائشة رضي الله عنها يوم عرفة فقال : اسقوني ، فقالت عائشة : يا غلام اسقه عسلاً ، ثم قالت : وما أنت بصائم يا مسروق ؟ قال : لا إني أخاف أن يكون يوم الأضحى ، فقالت عائشة : ليس ذلك إنما عرفة يوم يعرف الإمام ، ويوم النحر يوم ينحر الإمام ، أو ما سمعت يا مسروق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدله بألف يوم ) ، أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " ، والطبراني في " المعجم الأوسط " ، قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 3 / 190 ) : " في إسناده دلهم بن صالح ضعفه ابن معين وابن حبان وإسناده حسن " اهـ ، وضعفه الشيخ الألباني في " ضعيف الترغيب والترهيب " .

د / عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه ) ، أخرجه الدارقطني في " سننه " ( 2/224 ) ، والبيهقي في " السنن الكبرى " ( 5 / 176 ) ، وقال : " هذا مرسل جيد أخرجه أبو داود في المراسيل " .

وقال ابن حجر في " التلخيص الحبير " : " عبد العزيز تابعي ، قال ابن شاهين عن ابن أبي داود : اختلف فيه ، ورواه أبو نعيم في معرفة الصحابة في ترجمة عبد الله بن خالد ، والد عبد العزيز بهذا من رواية ابنه عبد العزيز عنه " وقال في التقريب ( 1 / 472 ) : " وهم من ذكره في الصحابة " اهـ .

هذا ولا يخرج الحديث من الإرسال برواية عبد العزيز عن أبيه ، لأن عبد الله بن خالد بن أسيد ، والد عبد العزيز قال عنه ابن منده : " في صحبته ورؤيته نظر " ، وذكر مثل قوله أبو نعيم في : " معرفة الصحابة " ، وكذلك ابن الأثير في " أسد الغابة " . وقد ضعف إسناد هذه الرواية الشيخ عبد الله الجبرين في تحقيقه لرسالة الحافظ ابن رجب : " أحكام الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة " ، وأعلها بثلاث علل ، وذكر أيضاً أن لها شاهداً لا يفرح به ، لأنها من رواية الواقدي وهو متروك إضافة إلى أنها مرسلة . ( انظر التحقيق في هامش رسالة ابن رجب ص24 ) .

2 -
مما يدل على أن المقصود بيوم عرفة هو اليوم الذي يقف فيه الناس بعرفة أنه أضيف الصوم إلى اليوم بعينه ، حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( صيام يوم عرفة ) ، أخرجه مسلم ( 1161 ) ، وغيره .

وجه الدلالة : أنه أضاف الصيام إلى يوم عرفة ، وليس إلى اليوم التاسع ، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أضاف الصيام إلى اليوم التاسع ، فدل على أن هذه الإضافة معتبرة .

3 –
أن المسلمين قد أجمعوا إجماعاً عملياً منذ عشرات السنين على متابعة الحجاج فلا يجوز مخالفتهم في ذلك ، وقد نقل الشيخ حسام الدين عفانة عن الدكتور محمد سليمان الأشقر قوله : " إن المسلمين في جميع أقطار العالم الإسلامي قد أجمعوا إجماعاً عملياً منذ عشرات السنين على متابعة الحجاج في عيد الأضحى ولا يجوز لأي جهة أو مجموعة من الناس مخالفة هذا الإجماع " .

و قال الشيخ عبد الرحمن السحيم : " .. ولا عبرة هنا باختلاف المطالع ؛ لأن الأمة تجتمع على أن يوم عرفة في ذلك اليوم الْمُحدَّد ، وعادة من يُخالف في ذلك لا يُخالف لأجل اختلاف مطالع ، بل لأمور سياسية ! ..."!! .

4 –
قد يحتج لهذا القول بما ورد في فضائل يوم عرفة :

*
منها ما رواه مسلم ( 1348 ) وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ) .

*
وفي رواية لأحمد ( 8033 ) وابن حبان ( 3852 ) وغيرهما ، من حديث أبي هريرة : ( إن الله عز وجل ليباهي الملائكة بأهل عرفات ، يقول : انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً ) ، قال الهيثمي ( 3 / 253 ) : " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح " وصححه الألباني .

*
ومنها ما رواه مالك ( كتاب الحج / 248 ) ، وعنه عبد الرزاق في " مصنفه " ( 4 / 378 ) ، وغيرهما ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ، ولا أحقر ، ولا أدحر ، ولا أغيظ منه في يوم عرفة ، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام ، إلا ما رأى يوم بدر ، قيل : وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ قال : أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة ) ، قال المنذري في " الترغيب والترهيب " ( 2 / 192 ) : " رواه مالك والبيهقي وغيرهما وهو مرسل " ، وضعفه الشيخ الألباني .

وجه الدلالة من هذه الأحاديث : أن الله عز وجل يدنو يوم عرفة دنواً يليق بجلاله ويباهي بأهل الموقف الملائكة ، وما ممن يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من هذا اليوم ، وما رؤي الشيطان أغيظ ولا أصغر ولا أحقر من هذا اليوم لما يرى من تنزل الرحمة وغفران الذنوب فيه ، ومن المعلوم أن المقصود بهذا اليوم وبلا شك هو يوم وقوف الناس بعرفة لا غيره والدنو والمباهاة وتغيظ الشيطان يكون في هذا اليوم لا غيره ، فيحمل فضل صيام يوم عرفة على هذا اليوم أي يوم وقوف الناس بعرفة .

5 -
قد يحتج لهذا القول بما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " ( 3 / 97 ) ، عن إبراهيم قال : في صوم عرفة في الحضر : ( إذا كان فيه اختلاف فلا تصومن ) ، قال الشيخ الجبرين : " وإسناده حسن ، إن شاء الله رجاله ثقات رجال الصحيحين ، عدا أبي العلاء، وهو أيوب بن أبي مسكين التميمي القصاب، فهو صدوق له أوهام كما في التقريب ص119 " اهـ .

وروى عنه أيضاً قوله : ( كانوا لا يرون بصوم عرفة بأساً إلا أن يتخوفوا أن يكون يوم الذبح ) ، قال الشيخ الجبرين : " وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيحين " . ( انظر تحقيق الشيخ الجبرين لرسالة ابن رجب ص14 ) .

القول الثاني : أن يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة سواء وافق هذا اليوم وقفة الحجيج بعرفة أم لم يوافق ، وأن لكل أهل قطر رؤيتهم ، وممن أخذ بهذا القول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - ، والشيخ عبد الله بن جبرين ، و الدكتور هاني بن عبد الله الجبير ، والأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي ، والأستاذ الدكتور خالد المشيقح – حفظهم الله - ، وآخرون .

وأدلة هذا القول ما يلي :

1 –
أن هذه المسألة متفرعة من أصل الخلاف المشهور في مسألة اختلاف المطالع بين قطر وآخر في شهر رمضان وشوال ، فينبغي أن تبنى وتخرج عليه ، وأدلة هذه المسألة المتفرعة هي نفسها أدلة تلك فليرجع إليها في مظانها . ولا فرق في اختلاف المطالع في جميع الشهور ، وإذا جازت المخالفة في الصوم والإفطار، فلم لا تجوز مخالفتها في ذي الحجة وغيره من الشهور .

ولهذا القائلين باختلاف المطالع لم يُنقَل عن أحدٍ منهم تفريقٌ في هذه المسألة .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في إجابة له لسؤال حول هذه المسألة : ".. هذا يبنى على اختلاف أهل العلم : هل الهلال واحد في الدنيا كلها أم هو يختلف باختلاف المطالع ؟ والصواب: أنه يختلف باختلاف المطالع ، فمثلاً إذا كان الهلال قد رؤي بمكة ، وكان هذا اليوم هو اليوم التاسع ، ورؤي في بلد آخر قبل مكة بيوم وكان يوم عرفة عندهم اليوم العاشر فإنه لا يجوز لهم أن يصوموا هذا اليوم لأنه يوم عيد ، وكذلك لو قدر أنه تأخرت الرؤية عن مكة وكان اليوم التاسع في مكة هو الثامن عندهم ، فإنهم يصومون يوم التاسع عندهم الموافق ليوم العاشر في مكة .." اهـ.

و قد وقفت للحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه " إنباء الغمر بأبناء العمر " على كلام ظاهره أن هذه المسألة كانت مشتهرة عند الناس بأنها راجعة إلى اختلاف المطالع ، فقد قال في أحداث عام ثمان وعشرين وثمانمائة : ".. وفي الثالث والعشرين من ذي الحجة وصل بالمبشر من الحاج وأخبروا بالرخاء الكثير في الحجاز، وأنه نودي بمكة أن لا تباع البهار إلا على تجار مصر، وأن لا يكون البهار إلا بهار واحد ، وأخبر بأن الوقفة كانت يوم الاثنين وكانت بالقاهرة يوم الأحد، فتغيظ السلطان ظناً منه أن ذلك من تقصير في ترائي الهلال ، فعرفه بعض الناس أن ذلك يقع كثيراً بسبب اختلاف المطالع ؛ وبلغني أن العيني شنع على القضاة بذلك السبب . فلما اجتمعنا عرفت السلطان أن الذي وقع يقدح في عمل المكيين عند من لا يرى باختلاف المطالع، حتى لو كان ذلك في رمضان للزم المكيين قضاء يوم، فلما لم يفهم المراد سكن جأشه " اهـ .

والغريب أنه مع كثرة وقوع هذه المسألة لم نقرأ للعلماء تطرقاً حولها بعينها ، فضلاً عن التفصيل فيها ، ولعل السبب في ذلك والله أعلم أنها متفرعة كما قلنا من مسألة اعتبار اختلاف المطالع .

بل العجب أن بعض القائلين بعدم اعتبار اختلاف المطالع كالحنفية ذُكر عنهم أنهم في شهر ذي الحجة يعتبرون اختلاف المطالع فيه !!

فقد جاء في " حاشية رد المختار " لابن عابدين ( 3 / 325 ) ما نصه : " تنبيه: يفهم من كلامهم في كتاب الحج أن اختلاف المطالع فيه معتبر ، فلا يلزمهم شيء لو ظهر أنه رئي في بلدة أخرى قبلهم بيوم ، وهل يقال كذلك في حق الأضحية لغير الحجاج ؟ لم أره ، والظاهر نعم ، لأن اختلاف المطالع إنما لم يعتبر في الصوم ( أي : صوم رمضان ) لتعلقه بمطلق الرؤية . وهذا بخلاف الأضحية فالظاهر أنها كأوقات الصلوات يلزم كل قوم العمل بما عندهم، فتجزئ الأضحية في اليوم الثالث عشر وإن كان على رؤيا غيرهم هو الرابع عشر والله أعلم " . إهـ .

2 –
أن يوم عرفة المقصود منه هو اليوم التاسع من ذي الحجة ، وأن المعتبر فيه هو التاريخ الهجري في القطر الذي يتواجد فيه الإنسان لا مطلق الوقوف بجبل عرفات ، وهذا هو المعهود من صنيع أهل العلم في تعريف يوم عرفة حيث يذكرون في بيان تعريف يوم عرفة أنه اليوم التاسع من ذي الحجة . ( انظر " القاموس الفقهي " ، و " معجم لغة الفقهاء " ، وكذا شروح كتب السنة ) .

-
وهذا – أي أن يوم عرفة هو يوم التاسع من ذي الحجة - لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف في سبب تسميته بيوم عرفة ، قال ابن قدامة في " المغني " ( 4 / 442 ) : " فأما يوم عرفة : فهو اليوم التاسع من ذي الحجة ، سمي بذلك لأن الوقوف بعرفة فيه ، وقيل : سمي يوم عرفة لأن إبراهيم عليه السلام أري في المنام ليلة التروية أنه يؤمر بذبح ابنه ، فأصبح يومه يتروى ، هل هذا من الله أو حلم ؟ فسمي يوم التروية ، فلما كانت الليلة الثانية رآه أيضا فأصبح يوم عرفة ، فعرف أنه من الله ، فسمي يوم عرفة ، وهو يوم شريف عظيم ، وعيد كريم ، وفضله كبير " اهـ .

وقد ذكر في سبب تسميته بعرفة عدة أقاويل غير ما اختاره أصحاب القول الأول فلا يمكن أن يحتج بأن سبب تسميت هذا اليوم بعرفة هو وقوف الناس بعرفة فقط ما لم يستند هذا القول إلى دليل يدل عليه ، ولا دليل عليه فيما نعلم ، ( انظر تلك الأقوال في " تفسسير الطبري " ( 2 / 297 ) ، و " البحر المحيط " ( 2 / 275 ) عند تفسير قوله تعالى : (( فإذا أفضتم من عرفات )) الآية ، وكذا " لسان العرب " لابن منظور ( 4 / 2898 ) = مادة : (( عرف )) ) .

3 –
قد يحتج لهذا القول أنه جاء في رواية التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم التاسع من ذي الحجة ، وذلك فيما رواه أبو داود ( 2437 ) ، وأحمد ( 22690 ) ، والنسائي ( 2372 ) وصححه الشيخ الألباني عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ، ويوم عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر والخميس ) .

وجه الدلالة من الحديث : أن زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم تسع ذي الحجة ، وهذا بلا ريب كان قبل حجة الوداع ، ولفظ ( كان ) يدل على الاستمرار ، ولم يبلغنا عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى وقفة الناس بعرفة .

4 –
قد يحتج لهذا القول بظاهر قول عائشة رضي الله تعالى عنها وذلك فيما رواه عبد الرزاق في " مصنفه " ( 4 / 157 ) عن مسروق : أنه دخل هو ورجل معه على عائشة يوم عرفة ، فقالت عائشة : يا جارية ! خوضي لهما سويقاً وحليةً فلولا أني صائمة لذقته ، قالا : أتصومين يا أم المؤمنين ! ولا تدرين لعله يوم يوم النحر ، فقالت : إنما النحر إذا نحر الإمام ، وعظم الناس ، والفطر إذا أفطر الإمام وعظم الناس " ، وفي رواية البيهقي في " السنن الكبرى " ( 4 / 252 ) : ( النحر يوم ينحر الناس ، و الفطر يوم يفطر الناس ) ، وجود إسناده الشيخ الألباني في " السلسة الصحيحة " ( 1 / 389 ) .

وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت : " إنما عرفة يوم يعرف الإمام ، ويوم النحر يوم ينحر الإمام ) ، أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " ، والطبراني في " المعجم الأوسط " ، قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 3 / 190 ) : " في إسناده دلهم بن صالح ضعفه ابن معين وابن حبان وإسناده حسن " اهـ ، وضعفه الشيخ الألباني في " ضعيف الترغيب والترهيب " .

وظاهر كلامها رضي الله تعالى عنها أنه لا يلتفت إلى الشك في يوم عرفة ، ولا عبرة في التخوف من أن يكون هو يوم النحر ، لأن العبرة فيما عليه الإمام وأهل البلد فيوم النحر يوم ينحر الإمام وأهل البلد ، والفطر يوم يفطر الإمام وأهل البلد .

5 -
أن هذه المسألة من المسائل الخلافية ، وحكم الحاكم فيها يرفع الخلاف ، فلو ألزم الحاكم أو من ينوب عنه الناس بإتباع بلاد الحرمين في رؤيتهم لشهر ذي الحجة وجب إتباعه ، وكذا إذا رأى اعتبار اختلاف المطالع حتى في هلال ذي الحجة ، فإنه يلزم على أهل البلد التي تحت حكمه وسلطانه طاعته ، لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف في مثل هذه المسألة ، ولا فرق بينها وبين مسألة الصوم والفطر بحكم الحاكم ، وعلى هذا تتفق الكلمة ولا تتشتت ، ويجتمع الناس في البلد الواحد على صيام واحد ، وعيد واحد ولا يتفرقوا .

قال ابن عثيمين في " مجموع فتاويه " في إجابة له حول هذه المسألة : " ... إذا كان البلدان تحت حكم واحد وأَمَرَ حاكمُ البلاد بالصوم ، أو الفطر وجب امتثال أمره ؛ لأن المسألة خلافية ، وحكم الحاكم يرفع الخلاف ، وبناء على هذا صوموا وأفطروا كما يصوم ويفطر أهل البلد الذي أنتم فيه سواء وافق بلدكم الأصلي أو خالفه ، وكذلك يوم عرفة اتبعوا البلد الذي أنتم فيه " اهـ .
المبحث الثالث :

مناقشة أدلة الفريقين والردود عليها


مناقشة أدلة القول الأول :


1 –
قولهم أن المقصود بيوم عرفة هو اليوم الذي يقف فيه الناس بعرفة وأن الناس تبع للحجاج في وقوفهم ، قول ليس عليه دليل صريح ، ولا يعدو كونه احتمالاً يتجاذبه احتمال آخر وهو أن يوم عرفة علم على الزمان لا المكان فهو يطلق على اليوم التاسع من ذي الحجة ، ومثله مثل يوم عاشوراء الذي هو اليوم العاشر من محرم ، وإذا وجد الإحتمال بطل الاستدلال .

قال الخرشي المالكي في " شرحه لمختصر خليل " : " ( قوله : وعرفة وعاشوراء ) هذه المواسم المشار بقوله وغيره من المواسم ، وعاشوراء ونصف شعبان موسم من حيث الصوم وغيره مما يطلب فيه ، والمواسم جمع موسم الزمن المتعلق به الحكم الشرعي ولم يرد بعرفة موضع الوقوف بل أراد به زمنه وهو اليوم التاسع من ذي الحجة ، وأراد بعاشوراء اليوم العاشر من المحرم " اهـ .

-
ومما يدل لذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى يوم التاسع من ذي الحجة يوم عرفة فعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله عز وجل أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه ثم كلمهم قبلاً ..) الحديث . قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 7 / 188 ) : " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح " اهـ ، وقد صحح الشيخ الألباني هذا الحديث في " صحيح الجامع " ( 1701 ) و " شرح الطحاوية " ( 219 ) .

ووجه الدلالة من هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى يوم التاسع من ذي الحجة الذي أخذ الله عز وجل الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بيوم عرفة ، ومن المعلوم بلا أدنى شك أن هذا اليوم ليس فيه وقوف بعرفة ، فدل أنه يقصد بيوم عرفة اليوم التاسع من ذي الحجة ، وليس يوم وقوف الناس بعرفة .

-
وأما ما ذكروه من أحاديث يستدلون بها على قولهم كحديث : ( عرفة يوم تعرفون ) ، وحديث : ( عرفة يوم يعرف الإمام ) ، وحديث : ( يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه ) ، وقول عائشة رضي الله عنها : ( يوم عرفة يوم يعرف الإِمام ) .

فيجاب عليه : بأن هذه الأخبار لا تسلم من ضعف ، ولكن على فرض صحة هذه الأخبار سواء بنفسها أو بمجموع طرقها ، فإنه يجاب عليها بأن معناها مثل معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( الصوم يوم تصومون ، والفطر يوم تفطرون ، والأضحى يوم تضحون ) ، والتفريق بين شهر الصوم والإفطار وبين غيره كعرفة والأضحى تفريق من غير دليل ، وخاصة وأنها قد ذكرت في حديث واحد .

يجاب على هذا الاعتراض :

-
أما نقاشهم في المقصود بيوم عرفة وما يتجاذبه من احتمال فهو كما قالوا ، إلا أن الفريق الأول قد يقول : احتمال دليلنا أقوى لما ذكر في الاستدلال رقم ( 1 ) و ( 2 ) .

-
وأما حديث ابن عباس الذي ذكرتموه بلفظ : ( بنعمان يوم عرفة ) فهو إن صح ففيه دلالة لقولكم كما أشرتم ، ولكن لا يفرح به بهذا اللفظ أبداً ، فليس لهذه اللفظة أصل البتة ، بل هي بهذا اللفظ غلط لم يرد في الأصول ، وإنما الوارد فيها هو لفظ : ( بنعمان يعني بعرفة ) ، والغريب أن هذا الحديث بلفظ : ( بنعمان يوم عرفة ) ذكره غير واحد من أهل العلم منهم ابن كثير في " قصص الأنبياء " ( ص 44 ) ، وابن أبي العز الحنفي في " شرح الطحاوية " ( ص 240 ) ، والهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 7 / 188 ) ، والشوكاني في " فتح القدير " ( 2 / 384 ) ، والسيوطي في تفسير " الدر المنثور " وفي " الجامع الصغير " وصححه بهذا اللفظ أيضاً الشيخ الألباني في " صحيح الجامع الصغير " ( 1701 ) و " شرح الطحاوية " ( 219 ) .

وكما قلنا آنفاً أن هذا النقل للحديث بهذا اللفظ ( بنعمان يوم عرفة ) غلط من ناقله ، والعجب تتابع نقل هذا الغلط من هؤلاء العلماء وغيرهم ، بل وعدم تنبيه من أخرجه وصححه على هذا الغلط ، ولم يرد هذا الحديث في الأصول التي ذكروها مرفوعاً ولا موقوفاً بهذا اللفظ ، وإنما ورد مرفوعاً عند أحمد في " المسند " ( 2455 ) ، وابن جرير في " تفسيره " ( 13 / 222 ) ، و " تاريخه " ( 1 / 90 ) ، والنسائي في " السنن الكبرى " (11191) ، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ( 2 / 149 ) ، والحاكم في " المستدرك "وصححه ، ووافقه الذهبي ( 1 / 27 ) بلفظ : ( بنعمان يعني عرفة ) ، فبطل الإحتجاج بهذا الحديث لأنه جاء بلفظ ( يعني عرفة ) وليس ( يوم عرفة ) ، وجاء موقوفاً أيضاً بهذا اللفظ وبألفاظ أخرى ليس في واحدٍ منها لفظة : ( يوم عرفة ) ! .

2 -
أما ما استدلوا به لاعتبار هذا المعنى المخصص ليوم وقوف الناس بعرفة من إضافة النبي صلى الله عليه وسلم الصوم إلى اليوم بعينه ، وأن هذه الإضافة معتبرة .

فجوابه : أن هذه الإضافة ليس فيها دلالة على قولهم لأن المشهور عند الناس إطلاق اسم هذا اليوم على اليوم التاسع من ذي الحجة ، ومثله مثل يوم عاشوراء يطلق على يوم العاشر من محرم ويوم النحر على اليوم العاشر من ذي الحجة .

ولهذا لشهرة التسمية بهذه الإضافة على تلك الأيام فإنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بقوله عن يوم النحر : ( أي يوم هذا ) ظن الصحابة أنه سيسميه بغير اسمه المعروف عندهم ، ولهذا لما قال لهم : ( أليس يوم النحر ) فأجابوه بقولهم : بلى .

-
وهذا إن سلمنا أنه لم يرد التصريح إلا بلفظ يوم عرفة ، وإلا فقد جاء في رواية التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم اليوم التاسع من ذي الحجة ، وذلك فيما رواه أبو داود ( 2437 ) ، وأحمد ( 22690 ) ، والنسائي ( 2372 ) وغيرهم من حديث هنيدة عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر والخميس ) ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح أبي داود " و " صحيح النسائي " .

يجاب على هذا الاعتراض :

-
أن هذا الحديث الذي ذكرتم أن فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم اليوم التاسع من ذي الحجة قد ضعفه غير واحد من أهل العلم لاضطرابه ، فقد اختلف فيه على هنيدة ، فروي عنه عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي عنه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي عنه عن أمه عن أم سلمة ، وممن ضعف الحديث الزيلعي في " نصب الراية " ، والشيخ شعيب الأرنؤوط في " تخريجه لمسند أحمد " ( 22690 ) .

بل إن الشيخ الألباني الذي صححه في " صحيح سنن أبي داود و" صحيح النسائي " ، حكم عليه بالضعف في " ضعيف الجامع " (4570 ) .

3 –
وأما قولهم : أن المسلمين قد أجمعوا إجماعاً عملياً منذ عشرات السنين على متابعة الحجاج فلا يجوز مخالفتهم في ذلك ، فهو أمر غير مسلم به ولا يستند إلى دليل ، فمازال الناس يختلفون في ذلك . فأما عدم اجتماعهم قبل توفر وسائل العلم الحديثة للاتصال فهو معلوم لا يشك فيه عاقل ، فإن المسلمين قبل اختراع وسائل الإتصال الحديثة ، لم يلتفتوا أصلاً إلى وقوف الناس في عرفة كشرط لصومهم عرفةَ في بلادهم، طوال أكثر من ألف وثلاثمائة عام ، بل ولم يذكر أحد من الفقهاء أن من شرط صحة صيام يوم عرفة أن يوافق وقوف الناس بعرفة ، ولم تعلم فترة من الزمان جرى فيها توحيد المسلمين جميعاً على رؤية واحدة إلى أن يكون حصل ذلك عرضاً دون سبق ترتيب وتطبيق .

وكذلك لم يقع بل ولم يذكر فيما أعلم في تاريخ المسلمين أنه إذا ثبتت رؤية هلال ذي الحجة في قطر من أقطار المسلمين ولو بمكة أو دار الخلافة أو الملك أن يتناقل الناس خبر الرؤية في شتى بقاع الأمة وتبعث البرقيات أو الرسائل لإخبار المسلمين في اليمن ومصر والشام والعراق وغيرها من بلاد الإسلام بخبر هذه الرؤية ، فلما لم يقع شيء من ذلك فمن أين لهم ذكر الإجماع .

والمتتبع لكتب التاريخ يجد عدم اجتماعهم على ذلك إلا أن يقع عرضاً من غير سبق ترتيب ، من ذلك ما جاء في " إنباء الغمر بأبناء العمر " للحافظ ابن حجر العسقلاني في أحداث عام أربع وعشرين وثمانمائة قال : ".. وفي هذه السنة حججت بعد أن توجه الحاج بعشرة أيام على رواحل فوصلت بالقرب من الحوراء ، ورافقتهم إلى مكة ثم عدت صحبتهم ، وكانت الوقفة يوم الجمعة بعد تنازع بمكة مع أن العيد كان بالقاهرة يوم الجمعة " اهـ .

ومن ذلك أيضاً ما جاء في أحداث عام ثمان وعشرين وثمانمائة قوله : ".. وفي الثالث والعشرين من ذي الحجة وصل بالمبشر من الحاج وأخبروا بالرخاء الكثير في الحجاز، وأنه نودي بمكة أن لا تباع البهار إلا على تجار مصر، وأن لا يكون البهار إلا بهار واحد، وأخبر بأن الوقفة كانت يوم الاثنين وكانت بالقاهرة يوم الأحد، فتغيظ السلطان ظناً منه أن ذلك من تقصير في ترائي الهلال ، فعرفه بعض الناس أن ذلك يقع كثيراً بسبب اختلاف المطالع؛ وبلغني أن العيني شنع على القضاة بذلك السبب . فلما اجتمعنا عرفت السلطان أن الذي وقع يقدح في عمل المكيين عند من لا يرى باختلاف المطالع، حتى لو كان ذلك في رمضان للزم المكيين قضاء يوم، فلما لم يفهم المراد سكن جأشه. " اهـ .

ومنها ما جاء في كتاب " السلوك لمعرفة دول الملوك " للمقريزي " : " .. وفي تاسع عشرينه : قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامة الحجاج، وأخبروا أنهم وقفوا بعرفة يوم الخميس، وكانت الوقفة بمصر يوم الأربعاء .." اهـ وغيرها .

وأما زعم اجتماعهم بعد توفر الوسائل الحديثة فينقضه الواقع المشاهد ، بل إن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله يذكر الاختلاف في هذه المسألة في زمانه فقد قال في رسالته : " أوائل الشهور العربية " ( ص 3 ) ما نصه : " ثبت في مصر لدى المحكمة العليا الشرعية أن أول شهر ذي الحجة من هذا العام ( سنة 1357 هـ ) يوم السبت ، فكان عيد الأضحى يوم الاثنين ( 30 يناير سنة 1939 م ) .

بعد بضعة أيام ، نشر في المقطم أن الحكومة العربية السعودية لم يثبت عندها أن السبت أول ذي الحجة ، فصار أوله الأحد ، فكان وقوف الحجيج بعرفه يوم الإثنين ، والعيد يوم الثلاثاء ( 31 يناير سنة 1939 م ) .

وفي يوم الجمعة 21 ذي الحجة (10 فبراير سنة 1939 م ) نشرت جريدة البلاغ عن مراسلها في بومباي بالهند في أول فبراير سنة 1939 م : أن المسلمين في بومباي احتفلوا بعيد الأضحى بهذا العام يوم الأربعاء خلافاً لما أعلن في الممالك الإسلامية الأخرى .ومعنى هذا أنه لم يثبت لدى مسلمي الهند أن أول الشهر السبت ولا الأحد فاعتبروا أوله يوم الإثنين . وهكذا في أكثر أشهر المواسم ، يتراءى الناس الهلال في البلاد الإسلامية ، فيُرى في بلدٍ ولا يُرى في بلد أخر ، ثم تختلف مواسم العبادات في بلاد المسلمين ، فبلد صائم وبلد مفطر، وبلد مضحّ ٍ وبلد يصوم أهله يوم عرفة . " اهـ .

4 –
وأما ما ذكر عن النخعي رحمه الله فلا يدل صراحةً على أن النهي عن صيام يوم عرفة هو بسبب الاختلاف مع الناس في عرفة ، بل الظاهر أن المقصود منه فيما إذا غم هلال ذي الحجة على الناس أو شهد برؤيته من لا تقبل شهادته فأكملوا شهر ذي القعدة ، فحينها يكون يوم التاسع مشكوك في كونه يوم عرفة أو يوم النحر ، ولهذا كرهه من كرهه ممن كان يقصدهم إبراهيم النخعي رحمه الله .

وهذا الظاهر من كلام الإمام النخعي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، حيث قال في " مجموع الفتاوى " ( 25 / 203 ، 204 ) : " ..فلو غم هلال ذي الحجة أو شهد برؤيته من لا تقبل شهادته ، إما لانفراده بالرؤية أو لكونه ممن لا يجوز قبوله ونحو ذلك ، واستمر الحال على إكمال ذي القعدة فصوم يوم التاسع الذي هو يوم عرفة من هذا الشهر المشكوك فيه جائز بلا نزاع ، قلت ولكن روى ابن أبي شيبة في كتابه عن النخعي في صوم يوم عرفة في الحضر إذا كان فيه اختلاف فلا يصومن ، وعنه قال كانوا لا يرون بصوم يوم عرفة بأسا إلا أن يتخوفوا أن يكون يوم الذبح . وروي عن مسروق وغيره من التابعين مثل ذلك وكلام هؤلاء قد يقال : إنه محمول على كراهة التنزيه دون التحريم ، والله أعلم " اهـ .

وقد تكون هذه الكراهة في كلامهم من باب الاحتياط ، ولكن الذي يظهر أنه لا مسوغ لها إذا لم تثبت الرؤية الشرعية لهلال ذي الحجة عند الحاكم أو من ينوب عنه .

ولهذا فإن عائشة رضي الله عنها لما أنكر عليها مسروق والرجل الذي معه صيامها يوم عرفة ، وقالا لها : أتصومين يا أم المؤمنين ! ولا تدرين لعله يوم يوم النحر ، قالت : إنما النحر إذا نحر الإمام ، وعظم الناس ، والفطر إذا أفطر الإمام وعظم الناس " .

ولعل نظير هذه المسألة القول بمشروعية صيام يوم الشك بنية الرمضانية احتياطاً إذا غم هلال رمضان بغيم أو قتر أو نحوهما ، وهذا قول لبعض أهل العلم منهم الإمام أحمد في رواية عنه واختارها الخرقي والقاضي أبي يعلى الفراء ، وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يصومه كما روى عنه ذلك أبو داود ( 2320 ) وغيره ، وصححه الشيخ الألباني : ( كان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له فإن رئي فذاك ، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قترة أصبح مفطراً ، فإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائماً ) ، ولكن فعل ابن عمر هذا ومن وافقه عليه هو خلاف ما عليه جمهور الأمة من أنه لا يصام رمضان إلا بيقين خروج شعبان بإكماله ثلاثين أو برؤية الهلال . ( انظر : " الإستذكار " لابن عبد البر ( 10 / 15 ) ) ، مع العلم أنه ورد أيضاً عن ابن عمر رواية ثانية يوافق ما عليه جمهور العلماء ، وهي قوله : ( لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ) ، رواه ابن أبي شيبة ( 2 / 485 ) ، قال الخطيب : " وهذا هو الأشبه بابن عمر لأنه لا يجوز الظن به أنه خالف النبي صلى الله عليه وسلم وترك قوله الذي رواه هو وغيره من العمل بالرؤية أو إكمال العدة " . ( انظر هذه المسألة وتفصيلها في " المجموع " للنووي ( 7 / 678 ) ) .

ومسألة صوم يوم التاسع الذي هو يوم عرفة من هذا الشهر المشكوك فيه ذكر شيخ الإسلام أنه لا نزاع بين العلماء في جوازه ، اللهم إلا في مسألة من رأى الهلال وحده فشهد عند الحاكم وردت شهادته هل يصوم ويقف مع الجماعة أم يقف ويصوم وحده ؟ وسيأتي ذكر هذه المسألة والتفصيل فيها في موضعها إن شاء الله .

وعلى كل حال : فهذه المسألة لا تتفرع على مسألتنا ، لأن مسألتنا ليس في صيام اليوم المشكوك فيه في البلد الواحد ، لأنه إن ثبت مثلاً في بلد رؤية هلال شهر ذي الحجة رؤية شرعية صحيحة مشتهرة في جوٍ صحوً وسماء صافية ، ولم يثبت في بلاد الحرمين رؤية الهلال بأن غم عليهم بغيم أو ضباب أو غبار أو نحوها فإنه لا يعتبر برؤية ذلك البلد الذي رؤي فيه الهلال ، فيكملون عدة شهر ذي القعدة ثلاثين يوماً ، فيصبح حينها على قول النخعي عند من احتج به يصبح صوم يوم عرفة على حسب رؤية بلاد الحرمين هي المشكوك فيها والتي يكره صومها ، بخلاف رؤية البلد الذي رؤي فيه الهلال قبل أن يكمل عدة شهر ذي القعدة .

5 –
أما ما احتجوا به من أن فضائل يوم عرفة المقصود بهذا اليوم هو يوم وقوف الناس بعرفة ، وأن دنو رب العزة سبحانه وتعالى بما يليق بجلاله وعظمته ، ومباهاته بأهل الموقف وتغيظ الشيطان يكون في يوم وقوف الناس بعرفة لا غيره ، فهو كلام صحيح وفيه وجه قوي لقولهم .

ولكن يجاب عليه : بأن هذا الفضل يكون للواقفين بعرفة ، ولا إشكال في ذلك لأن مباهاة الله خاصة بأهل الموقف ، ودنوه سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته يكون خاصاً بيوم عرفة الذي يجتمع الناس فيه بعرفة .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 5 / 478 ) : ".. وجميع ما وصف به الرب عز وجل نفسه من القرب فليس فيه ما هو عام لجميع المخلوقات كما في المعية ؛ فإن المعية وصف نفسه فيها بعموم وخصوص . وأما قربه مما يقرب منه فهو خاص لمن يقرب منه كالداعي والعابد وكقربه عشية عرفة ودنوه إلى السماء الدنيا لأجل الحجاج وإن كانت تلك العشية بعرفة قد تكون وسط النهار في بعض البلاد وتكون ليلا في بعض البلاد ؛ فإن تلك البلاد لم يدن إليها ولا إلى سمائها الدنيا وإنما دنا إلى السماء الدنيا التي على الحجاج وكذلك نزوله بالليل " اهـ.

أما حمل فضل صيام هذا اليوم بوقفة الناس بعرفة فغير مسلم لأن الأحاديث التي جاءت في فضل صيام يوم عرفة هي في الأصل وردت في حق غير الحاج عند جماهير أهل العلم ، وهذا اليوم هو التاسع من ذي الحجة ، ولم يذكر فيها تقييد الفضل بوقفة الناس بعرفة .

6 -
تفريق العلماء المعاصرين القائلين بجواز اختلاف المطالع بين شهر ذي الحجة وبين غيره من الشهور تفريق لم يؤثر عن أحد من الفقهاء السابقين . ولم يُنقَل عن أحدٍ من فقهاء المذاهب تفريقٌ في هذه المسألة ، وإنما كان كلامهم عاماً في اختلاف المطالع من دون تفريق بين شهر وآخر ، فإذا جاز اختلاف المطالع في شهر جاز في غيره عقلاً وحساً ، بل إن ابن عابدين رحمه الله يحكي اعتبار اختلاف المطالع في الحج دون غيره من الشهور عند من يقول بعدم اعتبار اختلاف المطالع وهذا يخالف تماماً ما عليه أصحاب القول الأول .


يجاب على هذا الاعتراض :

بأن هذا القول غير مسلم ، وأنه نقل عن ابن العربي في " أحكام القرآن " ( 1 / 143 ) : " .. وأن سائر أهل الآفاق تبع للحاج فيها " . وسيأتي مناقشة هذا الاعتراض عند مناقشة أدلة القول الثاني .

7 –
أن القول بهذا التفريق يؤدي إلى اضطراب في حساب الأشهر ، لأن من آثار هذا التفريق بين شهر ذي الحجة وبين غيره من الشهور أنه يؤدي ولابد إلى نقص يوم أو أكثر من الحساب في بعض البلدان ، ليتوافق مع حساب بلاد الحرمين ، ومثل ذلك يقال أيضاً في الزيادة ، وهذا أمر واقع مشاهد .

مناقشة أدلة القول الثاني :

1 –
قولهم : أن هذه المسألة متفرعة من مسألة الاختلاف في اعتبار اختلاف المطالع ولا فرق بينها قول محتمل ، ولكن يتجاذبه احتمال آخر وهو ما ذكرنا ، والنص ظاهر في أن يوم عرفة هو يوم يعرف الناس فيه ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم ( وعرفة يوم تعرفون ) أي : يوم تقفون بعرفة ، ويؤيده الخبر : ( يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه ) .

-
وأما زعمهم أنه لم يُنقَل عن أحدٍ من الفقهاء القدامى تفريقٌ في هذه المسألة فغير مسلم لكم ، فقد قال ابن العربي في " أحكام القرآن " ( 1 / 143 ) : " .. وأن سائر أهل الآفاق تبع للحاج فيها " .

-
وأيضاً : قد ذكر عن غير واحد من السلف كابن عباس وعمرو بن حريث من الصحابة والحسن البصري وغيرهم التعريف بيوم عرفة ، وأجازه بعض العلماء ، والتعريف : هو الاجتماع المعروف في البلدان بعد العصر يوم عرفة .

يجاب على هذا الاعتراض :

أولاً : قولهم أن عرفة علم للمكان لا الزمان وهو وقوف الناس بعرفة قد تم الرد عليه في أول مناقشة قولهم فلينظر هناك .

ثانياً : ما ذكر عن ابن العربي في " أن سائر أهل الآفاق تبع للحاج فيها " استدلال في غير محله ، وإيراد ليس له وجه ، ولعل من ذكر هذا القول قد التبس عليه الأمر أو أنه لم يفهم مراد ابن العربي في ذلك ، لأنه بعد الرجوع لنص كلام ابن العربي كاملاً في كتابه " أحكام القرآن " يتبين أنه كان لا يتكلم عن مسألتنا هذه وهي أن سائر الأقطار تبع للحجيج في وقوفهم ، وإنما كان يتكلم عن مسألة أخرى وهي : وقت التكبير بالنسبة للحاج ، ومن ثم بعد التحقيق قال : " وأن سائر أهل الآفاق تبع للحاج فيها " ، أي : أن سائر أهل الآفاق مثلهم مثل الحاج في وقت ابتداء التكبير وهو أنه يبدأ وقت التكبير عندهم عقيب صلاة الظهر من يوم النحر ويختتم بعد الصبح من آخر أيام التشريق ، وهذا أحد الأقوال في هذه المسألة ، قال البغوي في " تفسيره " : " يروى ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك والشافعي ، قال الشافعي : لأن الناس فيه تبع للحاج .." .

وقد رد ابن قدامة هذا القول في " المغني " ( 3 / 289 ) حيث قال : " .. وأما المحرمون فإنهم يكبرون من صلاة الظهر يوم النحر ؛ لما ذكروه ، لأنهم كانوا مشغولين قبل ذلك بالتلبية ، وغيرهم يبتدئ من يوم عرفة ؛ لعدم المانع في حقهم مع وجود المقتضي ، وقولهم : إن الناس تبع لهم في هذا دعوى مجردة ، لا دليل عليها ، فلا تسمع " .

وهذا النقل عن ابن العربي إن دل فإنه يدل على أن الناقل من أصحاب هذا القول لما لم يجد ما يسند قوله من نصوص من قبلهم في هذه المسألة جاء بهذا النص المبتور من كلام ابن العربي ، ثم لي عنق هذا النص ليتوافق وقولهم .

ثالثاً : ما ذكروا من الاستدلال بمسألة التعريف بيوم عرفة ، فقبل مناقشة هذا الاستدلال ينبغي أن يستدل المستدل بما يرى مشروعيته لا ما يرى بدعيته ! فهل يرى المستدل مشروعية هذه المسألة أو على الأقل جوازها أم لا ؟

إن كانت الإجابة بالنفي فليس له في هذه المسألة حجة ، وإن كانت الإجابة بالإثبات ، فهنا يجاب على هذه المسألة بأن حكمها كحكم سابقاتها ، أي : أنه ليس فيها دلالة قوية على مسألتنا ، لأنها تحتمل القولين ، فقد يكون التعريف في يوم التاسع من ذي الحجة سواء وافق وقفة الحجيج أم لم يوافق .

واستدلالهم هذا وإن كان له وجه يحتمل مسألتنا ، ولكن احتمال هذا الوجه كما قلنا إن صح مشروعية التعريف ، وإلا فالأصل في مسألة التعريف أن فيها خلاف بين السلف ، وقد فعله بعضهم كابن عباس ، وعمرو بن حريث من الصحابة ، وأجازه أحمد ولم يستحبه على المشهور عنه ، وكرهه أبي حنيفة ومالك وغيرهما ، وذكر بعضهم أنه محدث كالحكم وحماد والنخعي ، وذكروا أن التعريف إنما هو بمكة ، قال النخعي : " إنما التعريف بمكة " ، وبمثل قوله قال ابن الحنفية وغيره ، وقد عد الشيخ الألباني في كتابه " مناسك الحج والعمرة" ( ص 52 ) هذا التعريف من بدع يوم عرفة . (( انظر : " السنن الكبرى " للبيهقي ( 5 / 117 ، 118 ) ، و" اقتضاء الصراط المستقيم " لابن تيمية ( ص 149 ) )) .

قال الإمام النووي في " المجموع " ( 8 / 111 ) : " ( فرع ) : في التعريف بغير عرفات وهو الاجتماع المعروف في البلدان بعد العصر يوم عرفة ، وفيه خلاف للسلف رويناه في سنن البيهقي عن أبي عوانة قال : ( رأيت الحسن البصري يوم عرفة بعد العصر جلس فدعا وذكر الله عز وجل فاجتمع الناس) ، وفى رواية : ( رأيت الحسن خرج يوم عرفة من المعصورة بعد العصر فعرف ) ، وعن شعبة قال ( سألت الحكم وحماداً عن اجتماع الناس يوم عرفة في المساجد ؟ فقالا : هو محدث ) ، وعن منصور عن إبراهيم النخعي : هو محدث ، وعن قتادة عن الحسن قال : أول من صنع ذلك ابن عباس ، هذا ما ذكره البيهقي ، وقال الأثرم : سألت أحمد بن حنبل عنه فقال : أرجوا أنه لا بأس به قد فعله غير واحد الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة ، وكرهه جماعات منهم نافع مولى ابن عمر وإبراهيم النخعي والحكم وحماد ومالك ابن أنس وغيرهم ، وصنف الإمام أبو بكر الطرطوشى المالكى الزاهد كتابا في البدع المنكرة جعل منها هذا التعريف وبالغ في إنكاره ، ونقل أقوال العلماء فيه ، ولا شك أن من جعله بدعة لا يلحقه بفاحشات البدع بل يخفف أمرها والله أعلم " اهـ .

2-
قولهم : أن المقصود بيوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة وأنه علم على الزمان لا المكان فغير صحيح ، والدليل على أنه علم على المكان اتفاق العلماء أن أهل الموقف إذا أخطئوا عرفة ووقفوا يوم العاشر فبان بعد انتهاء وقته بأن وقوفهم كان خطأً ، فيجزئهم ذلك الوقوف وحجهم صحيح ، بل رجح شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا اليوم الذي أخطئوا فيه هو يوم عرفة باطناً وظاهراً ولا خطأ في ذلك ، لأن يوم عرفة هو اليوم الذي يعرف فيه الناس . ( انظر : " مجموع الفتاوى " ( 22 / 211 ) ) ، قال ابن رجب في " فتح الباري " وكذلك النووي في " المجموع " ( 5 / 29 ) : " .. يوم عرفة هوَ اليوم الذي يظهر للناس ، أنه يوم عرفة ، سواء كانَ التاسع أو العاشر.." اهـ .

يجاب على هذا الاعتراض :

أن هذا الدليل عليكم وليس لكم ، لأن مقتضى هذا القول إقراركم أن الناس قد يخطئون في الوقوف بعرفة في يومه الصحيح وهو التاسع من ذي الحجة ، وإجزاء وقوفهم في هذه المسألة التي ذكرتم هو لاتفاق أهل العلم على ذلك ، وذلك لأن إلزام الناس عامة بالقضاء فيه مشقة عظيمة عامة بالحجيج ، ولم يأمنوا وقوع مثل هذا الخطأ فيه مرة ثانية ، ثم إن هذا الحكم من أهل العلم من خصه بالحجاج دون غيرهم ، جاء في " حاشيتي قليوبي وعميرة " : " وهذا كله بالنسبة للحاج دون غيرهم فيما يظهر " اهـ .

ومن أهل العلم من جعل هذا الحكم عاما فألحق الفطر والأضحى بهذه المسألة ، قال ابن عبد البر : ".. قد أجمعوا أن الجماعة لو أخطأت الهلال في ذي الحجة فوقفت بعرفة في اليوم العاشر أن ذلك يجزئها ، فكذلك الفطر والأضحى ، والله أعلم " اهـ . (( انظر " فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر " ( 7 / 313 ) ))

-
ومما يدل في كلام بعض الفقهاء على أن يوم عرفة علم على الزمان لا المكان مسألة أخرى ذكرها الفقهاء وهي فيمن من رأى هلال ذي الحجة وحده أو مع غيره وردت شهادتهم فهل يقفون مع الناس بعرفة مع الناس ، أم يقفون وحدهم بحسب رؤيتهم واعتقادهم ؟ فيه خلاف ، فذهب قوم : إلى : جواز الوقوف قبلهم بحسب تلك الرؤية ، وذهب آخرون : إلى وجوب الوقوف ، ومن العلماء من قال : يلزم الوقوف مع الناس ولا يجزئ الوقوف قبلهم ، ومن العلماء من قال : يقف لرؤيته ويعيد الوقوف من الغد مع الناس .

قال الخطيب الشربيني في " مغني المحتاج " ( 1 / 726 ) : " ومن رأى الهلال وحده أو مع غيره وردت شهادته ووقف قبلهم لا معهم أجزأه ، إذ العبرة في دخول وقت عرفة وخروجه باعتقاده ، وهذا كمن شهد برؤية هلال رمضان فردت شهادته يلزمه الصوم . " اهـ .

وقال النووي في " المجموع " ( 9 / 325 ) : " قال أصحابنا : لو شهد واحد أو جماعة برؤية هلال ذي الحجة فردت شهادتهم لزم الشهود الوقوف في اليوم التاسع عندهم والناس يقفون بعده ، فلو اقتصروا على الوقوف مع الناس في اليوم الذي بعده لم يصح وقوف الشهود بلا خلاف عندنا . وحكى أصحابنا عن محمد بن الحسن أنه قال : يلزمهم الوقوف مع الناس ، أي وإن كانوا يعتقدونه العاشر . قال : ولا يجزئهم التاسع عندهم . دليلنا أنهم يعتقدون هذا اليوم الذي يقف الناس فيه العاشر فلم يجز وقوفهم فيه ، كما لو قبلت شهادتهم " اهـ .

وجاء في كتاب " مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل " ما نصه : " قال سند : إذا شهد واحد أو جماعة ورد الحاكم شهادتهم لزمهم الوقوف لرؤيتهم ، كما قلنا في الصوم ، وهذا قول الجمهور ، وحكي عن محمد بن الحسن لا يجزئه ، ويقف مع الناس يوم العاشر انتهى ، ونقله في التوضيح بلفظ : وقال محمد بن الحسن : لا يجزئه حتى يقف مع الناس ، وظاهره أنه يقف على رؤيته ومع الناس ، وقال الشيخ زروق في شرح الإرشاد : ومن رأى هلال ذي الحجة وحده وقف وحده كأن لم يقبل فيه ، وفي الصوم سواء ، وقال أصبغ : يقف لرؤيته ويعيد الوقوف من الغد مع الناس انتهى . وقال في البيان في سماع ابن أبي زيد من كتاب الصيام : وكذلك إن رأى هلال ذي الحجة وحده يجب عليه أن يقف وحده دون الناس ويجزئه ذلك من حجه قاله بعض المتأخرين ، وهو الصحيح انتهى " اهـ .

وقال ابن حزم في " المحلى " ( 7 / 192 ) : " مسألة - فإن صح عنده بعلم أو بخبر صادق أن هذا هو اليوم التاسع إلا أن الناس لم يروه رؤية توجب أنها اليوم الثامن ففرض عليه الوقوف في اليوم الذي صح عنده أنه اليوم التاسع وإلا فحجه باطل لما ذكرنا ، روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمر بن محمد قال: شهد نفر أنهم رأوا هلال ذي الحجة فذهب بهم سالم إلى ابن هشام وهو أمير الحج فلم يقبلهم فوقف سالم بعرفة لوقت شهادتهم، ثم دفع فلما كان في يوم الثاني وقف مع الناس " اهـ .

والأقرب من هذه الأقوال هو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية في أنه يقف مع الناس يوم العاشر وليس له أن يقف قبلهم ، أما صوم هذا اليوم الذي هو في اعتقاده التاسع فيستحب له صيامه ، وكذلك يصوم في اليوم التاسع في الظاهر المعروف عند الجماعة وإن كان في نفس الأمر يكون عاشرا عنده .

جاء في " مجموع الفتاوى " ( 25 / 203 ، 204 ): " وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن أهل مدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة ولم يثبت عند حاكم المدينة : فهل لهم أن يصوموا اليوم الذي في الظاهر التاسع . وإن كان في الباطن العاشر ؟

فأجاب : نعم . يصومون التاسع في الظاهر المعروف عند الجماعة وإن كان في نفس الأمر يكون عاشرا ولو قدر ثبوت تلك الرؤية . فإن في السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون } أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه . وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس } رواه الترمذي وعلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم ....." ، إلى أن قال : " ... وهذا يظهر بالمسألة الثانية فإنه لو انفرد برؤية ذي الحجة لم يكن له أن يقف قبل الناس في اليوم الذي هو في الظاهر الثامن وإن كان بحسب رؤيته هو التاسع وهذا لأن في انفراد الرجل في الوقوف والذبح من مخالفة الجماعة ما في إظهاره للفطر . وأما صوم يوم التاسع في حق من رأى الهلال أو أخبره ثقتان أنهما رأيا الهلال وهو العاشر بحسب ذلك ولم يثبت ذلك عند العامة وهو العاشر بحسب الرؤية الخفية فهذا يخرج على ما تقدم . فمن أمره بالصوم يوم الثلاثين الذي هو بحسب الرؤية الخفية من شوال ولم يأمره بالفطر سرا سوغ له صوم هذا اليوم واستحبه ؛ لأن هذا هو يوم عرفة كما أن ذلك من رمضان وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة والاعتبار . ومن أمره بالفطر سرا لرؤيته نهاه عن صوم هذا اليوم عند هذا القائل كهلال شوال الذي انفرد برؤيته" اهـ .

3 -
استدلال القائلين بأن يوم عرفة هو يوم التاسع من ذي الحجة بغض النظر هل وافق هذا اليوم الذي عندهم وقوف الناس بعرفة أم لا بالحديث الذي جاء فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم تسع من ذي الحجة قد تم الجواب عليه في الاعتراض على المناقشة رقم ( 2 ) أثناء مناقشة القول الأول ، وفما يلي زيادة تفصيل :

أولاً : أن هذا الحديث قد ضعفه غير واحد من أهل العلم لاضطرابه ، لأنه اختلف فيه على هنيدة ، فروي عنه عن امرأته عن بعض أزواج النبي ، وروي عنه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وروي عنه عن أمه عن أم سلمة ، وممن ضعف الحديث الزيلعي في " نصب الراية " ، والشيخ شعيب الأرنؤوط في " تخريجه لمسند أحمد " ( 22690 ) ، وما ذكر من تصحيح الشيخ الألباني للحديث في " صحيح أبي داود و" صحيح النسائي " ، عارضه تضعيفه له في " ضعيف الجامع " (4570 ) .

ثانياً : لو صح الحديث بهذا اللفظ ، فيجاب : أن هذه اللفظة ليست من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم المعهودة عنه ، وإنما لفظ صحابي ، وأما عبارة النبي صلى الله عليه وسلم المعهودة عنه هي قوله : ( صوم يوم عرفة ) ، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه نسب صوم يوم عرفة إلى اليوم التاسع من ذي الحجة ، وإنما أضاف الصوم إلى عرفة والإضافة معتبرة ، لأنه يقصد بها يوم عرفة الذي يقف فيه الناس بعرفة .

ثالثاً : يحتمل أن أم سلمة رضي الله عنها أرادت بذلك صوم النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة الذي هو بلا شك يوم التاسع من ذي الحجة ، وهو كذلك اليوم الذي يقف فيه الناس بعرفة ، فعبرت عن يوم عرفة باليوم التاسع اجتهاداً منها ولا غرابة في ذلك .

رابعاً : أن رواية النسائي ( 2372 ) جاءت بلفظ : ( كان يصوم تسعاً من ذي الحجة ) ، فيحتمل أن المعنى المقصود من الحديث أنه كان يصوم الأيام التسع من ذي الحجة ، ويؤيد هذا أنه جاء بلفظ ( كان يصوم العشر ) أخرجه النسائي ( 2416 ) ، وغيره عن هنيدة عن حفصة وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله .

يجاب على هذا الاعتراض :

ما ذكر من اضطراب في الحديث في سنده ومتنه لا يستلزم ضعف جميع الروايات ،اللهم إلا إذا لم يمكن الجمع بينها أو الترجيح بين الروايات بشيء من وجوه الترجيح الصحيحة ، أما إذا أمكن الجمع أو الترجيح كأن يكون لبعضها شواهد يتقوى بها ، فإنه ينبغي حينها الأخذ بالراجح ورد المرجوح ، ورواية فعله صلى الله عليه وسلم أنه : ( كان يصوم تسع ذي الحجة ) يقويها أمره صلى الله عليه وسلم بالصوم يوم عرفة ، فيثبت استحباب صوم هذا اليوم من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله .

هذا وقد رجح الشيخ الألباني هذه الرواية من بين الروايات المضطربة في الحديث كما في " صحيح سنن أبي داود " ، حيث قال في " الإرواء " ( 4 / 111 ) : "..وقد تكلمت على الاختلاف المذكور وذكرت الراجح منه في ( صحيح أبي داود ) " اهـ .

وأما تضعيفه في الجامع فلأن الرواية المضعفة كانت من الروايات المرجوحة ، لأنها سندها عن هنيدة بن خالد عن حفصة مباشرة ، والراجح هنيدة عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .

4 -
استدلالهم بظاهر قول عائشة رضي الله تعالى عنها : ( إنما النحر إذا نحر الإمام ، وعظم الناس ) ، ليس فيه دلالة على قولهم ، وهو يحتمل القولين كما ذكرتم في مناقشة أدلة القول الأول ، ثم إن هذا الشك كما ذكروا سابقاً في مناقشة قول النخعي المقصود منه إذا غم على الناس الشهر بغيم أو نحوه ، وكان يوم عرفة مشكوك فيه ، وحينها يكون النحر إذا نحر الإمام ، وكذلك يوم عرفة يوم يعرف الإمام والناس ، كما صرحت به عائشة رضي الله عنها في قولها : ( يوم عرفة يوم يعرف الإِمام ) .

يجاب على هذا الاعتراض :

هو كما قلتم في أن المسألة متعلقة بما ذكرنا ، ولكن في الأثر هذا مغزى آخر يتبين بهذا السؤال : ما مراد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإمام؟ هل هو الإمام الأعظم أم ولاته أم غيرهم ؟

إن قلتم هو الإمام الأعظم فهنا وجب عليكم أن تأخذوا بالمسألتين النحر والفطر مع الإمام الأعظم وهو ولي أمر المسلمين ، فلماذا تفرقون بين المسألتين .
ثم إن أولياء الأمر في زماننا كثر !! فلكل دولة حاكمها وأميرها الذي يقوم بأمرها ، وعلى هذا القول أو حتى غيره من الأقوال ، ينبغي النحر مع الإمام ، والفطر مع الإمام ، والتعريف مع الإمام ، حتى عند من يرى عدم اعتبار اختلاف المطالع ، وما أحسن ما قاله الشيخ الألباني رحمه الله في " السلسلة الصحيحة " ( 6 / القسم الأول / 254 ) : " ... ونرى أن من الواجب على الحكومات الإسلامية أن يوحدوا يوم صيامهم و يوم فطرهم ، كما يوحدون يوم حجهم ، و لريثما يتفقون على ذلك ، فلا نرى لشعوبهم أن يتفرقوا بينهم ، فبعضهم يصوم مع دولته ، و بعضهم مع الدولة الأخرى ، و ذلك من باب درء المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما هو مقرر في علم الأصول.. " اهـ ، ومثل قوله يقال في مسألتنا هذه ، وهذا هو القول الذي ينبغي المصير إليه ، والتعويل عليه ، وقد ذكر ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " ( ص 456 ) عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قوله في الأمراء : " هم يلون من أمورنا خمساً : الجمعة والجماعة ، والعيد ، والثغور ، والحدود ، والله لا يستقيم الدين إلا بهم ، وإن جاروا وظلموا " . اهـ ،

أما التفريق بين مسألة وأخرى فهو أمر غير مسلم به ، وهو مع ما فيه من بعد ، فيه تشتيت لجماعة المسلمين في البلد الواحد ، فكيف يقال للجماعة صوموا مع ولي أمركم وما يفتى به في بلدكم ، وأفطروا معهم ، فإذا جاء شهر ذي الحجة وتقدمتم أو تأخرتم عن وقفة الناس بعرفة فلا تصوموا مع الإمام ولا تضحوا معه ! بل ولا تصلوا العيد معه على حد زعم بعضهم !

فهذا فيما نرى فيه من التفاوت والمخالفة لولي الأمر ولجماعة المسلمين ما الله به عليم ، وفيه تشتيت للكلمة ، وتفريق للجماعة الواحدة ، والمخالفة الظاهرة لولي الأمر والافتيات عليه مما لا يقبله عقل ، ولا يقره شرع ، ويد الله مع الجماعة .

5 -
استدلالهم بأن هذه المسألة من المسائل الخلافية ، وحكم الحاكم فيها يرفع الخلاف ، وأن الحاكم أو من ينوب عنه إذا رأى اعتبار اختلاف المطالع حتى في هلال ذي الحجة ، فإنه يلزم على أهل البلد التي تحت حكمه وسلطانه طاعته فهو استدلال باطل ؛ لأن الإمام وضع لتطبيق شرع الله ، وأنه لا يطاع في معصية ، ورفضه التعريف مع أهل الموقف مع ثبوته بوجه شرعي هو عدم تطبيق للشرع وطاعته في ذلك طاعة في الإثم ، وهذا ليس من باب الخروج عليه ، لأن مسألة الصيام مع الإمام أو الإفطار والنحر معه ليس لذات الإمام ، بل لأن الإمام مخوّل في البحث عن ثبوته ، فإن ثبت بوجه شرعي اتبعنا الوجه الشرعي لأنه هو الشّرع ؛ وثبوته الصوم والفطر هو بالرؤية ، أما شهر ذي الحجة فأهل الأمصار تبع فيه لبلاد الحرمين .
ثم إن إعلان المخالفة في الحج يخضع لاعتبارات سياسية واعتبارات أخرى كاعتبار الاستقلال في إعلان ثبوت الصيام والفطر والنحر تابعاً لاستقلالية البلد واستقلال إرادته وسيادته ، ولا أدل من هذا على أن الأمر ليس تبنياً من الحاكم لرأي فقهي ، وإنما هو تبنٍ من الحاكم لرأي مصدره الهوى أن بعض البلاد قد تتبع الناس في الحج لسنوات من غير تثبت لهلالها ثم تخالف بعد ذلك ثم تتبع ثم تخالف !! .

قال الشيخ السحيم في فتوى له حول هذه المسألة : ".. لا طاعة في معصية الله ، إنما الطاعة في المعروف . رواه البخاري ومسلم . ولقول عليه الصلاة والسلام : على المرء والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة . رواه البخاري ومسلم . والعبرة بوقوف الناس في " عرفة " ، ولا عبرة بِمن خالف إجماع امة الإسلام ، فأمّة الإسلام تحج وتقف وتُجمِع على أن يوم عرفة هو يوم الثلاثاء ، وهو اليوم الذي يقف فيه الناس .ولا عبرة هنا باختلاف المطالع ؛ لأن الأمة تجتمع على أن يوم عرفة في ذلك اليوم الْمُحدَّد ، وعادة من يُخالف في ذلك لا يُخالف لأجل اختلاف مطالع ، بل لأمور سياسية !ومن يُخالف في هذه يُناقض نفسه بِنَفسِه !إذ يذهب حجاج بلده إلى الشاعر المقدّسة فيقفون مع الناس ، بينما هو لا يعتبر ذلك يوم وقوف الناس .." اهـ .

وأما القول بأن الدعوة لعدم طاعة الحاكم في هذه المسألة هي دعوة للفرقة في ذلك البلد لأن بعضهم سيصوم عرفة ويضحي وبعضهم سيخالف و بهذا تقع الفرقة في البلد الواحد فجوابه أن الفرقة هي في مخالفة هذا الحاكم ومن تبعه لأمة الإسلام التي تتبع بلاد الحرمين في شهر ذي الحجة لا في الصوم والتعريف والنحر مع أمة الإسلام .

يجاب على هذا الاعتراض :

أن زعمكم في أن حكم الحاكم لا يرفع الخلاف ليس في محله ، لأن هذه المسألة مثلها مثل مسألة الاعتبار في اختلاف المطالع والخلاف فيها بين أهل العلم هو كما بينا ، ولكل قول قائل به من أهل العلم المعتبرين ، فإذا قلتم بأن حكم الحاكم يرفع الخلاف في مسألة هلال الصوم والإفطار فلم لا يرفع الخلاف في مسألة هلال الحج .

ثم إنكم بنيتم قولكم في أن هذه المسائل ليس لذات الإمام ، بل لأن الإمام مخوّل في البحث عن ثبوته ، ثم قلتم أن الثبوت الشرعي للصوم والفطر هو بالرؤية ، أما شهر ذي الحجة فزعمتم أن أهل الأمصار تبع فيه لبلاد الحرمين ، ونحن نوافقكم أن الثبوت الشرعي في الصوم والفطر هو بالرؤية ، أما عرفة والأضحى فلا نوافقكم أن أهل الأمصار تبع في ذلك لأهل مكة وإنما مثلها مثل الصوم والفطر في أن الثبوت الشرعي فيها هو بالرؤية ، فإذا جوزنا أن حكم الحاكم يرفع الخلاف في مسألة الصوم والفطر ، فكذلك حكمه يرفع الخلاف في هذه المسألة لأنها متفرعة من اعتبار اختلاف المطالع .
وأما اعتراضكم بأن إعلان المخالفة في الحج يخضع لاعتبارات سياسية فيلزمكم أن تقولوا بمثل هذا الكلام في هلال الصوم والفطر أيضاً ، فمن خالف في هلال الحج لاعتبارات سياسية فمن باب أولى مخالفته في هلال الصوم والفطر .

ثم إن أمر المخالفة راجع إلى النيات ولا يعلمها إلا الله ، ونحن مأمورون بالطاعة في غير معصية ، ومسألتنا فيما نرى للاجتهاد فيها مجال ، فإن كان حكم الحاكم فيها لاجتهاد ومقصد شرعي فله ولنا ، وإن كان لغير ذلك فلنا وعليه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( يصلون لكم فإن أصابوا فلكم وإن أخطئوا فلكم وعليهم ) ، أخرجه البخاري ( 694 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .



المبحث الرابع :

الرأي الراجــح

بعد استعراض آراء أهل العلم في هذه المسألة ، والنظر في أدلتهم وحججهم ، وما ذكر من اعتراضات على بعضها ، يتبين أن أصل الخلاف في هذه المسألة منحصر في مسألتين :

المسألة الأولى
: إذا قلنا باعتبار اختلاف المطالع ، فهل هذا الاعتبار عام في جميع شهور السنة الهجرية أم أنه يفرق بين شهر ذي الحجة وبين غيره من الشهور ؟


والراجح :
 أننا إذا قلنا باعتبار اختلاف المطالع – وهو رأي مرجوح عندنا - فإنه يكون في جميع أشهر السنة من
 دون تفريق بين شهر أو آخر ، فإذا جاز اعتبار اختلاف المطالع في شهر رمضان وشوال ، فلم لا يجوز اعتبارها في شهر ذي الحجة ؟ وما وجه هذه التفريق بين شهر ذي الحجة وبين غيره من الشهور؟ أوليس الهلال هو الهلال ، والثبوت هو الثبوت ً.

ثم هنا مسألة مهمة تتعلق بهذه المسألة :
 وهي هل إذا أخرجنا شهر ذي الحجة من قائمة اعتبار اختلاف المطالع تكون العبرة حينها فقط برؤية بلاد الحرمين لهلال ذي الحجة دون غيرهم من سائر الأقطار ؟ أم أنه متى ثبتت رؤية هلال شهر ذي الحجة في أي بلد من بلاد الإسلام قرب أم بعد فإن لهذه الرؤية اعتبارها .

والراجح : أننا إذا قلنا بإخراج شهر ذي الحجة من قائمة اعتبار اختلاف المطالع – وهو رأي مرجوح عندنا - فإن الخطاب بتحري رؤية هلال شهر ذي الحجة يكون حينها موجهاً لعموم المسلمين في بلاد الإسلام سواء تقاربت البلاد أم تباعدت ، وأنه متى ثبتت رؤية الهلال في أي دولة من دول العالم الإسلامي ، وكانت هذه الرؤية رؤية صحيحة معقولة غير مطعون فيها من كل الوجوه ، ولم تكن ممتنعة أو مستحيلة ، فإنه يلزم عموم المسلمين اعتبارها وقبولها لدخول شهر ذي الحجة ، لأن المسلمين أمة واحدة ، وديارهم ديار واحدة .

أما أن يكون التحري مقتصراً على بلاد الحرمين دون غيرها من دول العالم الإسلامي ولو كانت قريبة منها ، فإن هذا فيه من الإجحاف والحكر ما فيه ، ولم يقل به أحد من أهل العلم فيما نعلم ، بل ذكر الحافظ ابن حجر في " إنباء الغمر " في أحداث عام خمس وأربعين وثمانمائة أن وقفة عرفة كانت في هذه السنة برؤية أهل الشام فقد قال : " ... وكان وصول الركب إلى مكة سحر يوم الخميس ولم يروا الهلال تلك الليلة لكثرة الغيم وسألوا أهل مكة فلم يخبر أحد منهم برؤيته . وتمادوا على أن الوقفة تكون يوم السبت وأشار عليهم القاضي الشافعي أن يخرجوا يوم الخميس ويسيروا إلى عرفة ليدركوا الوقوف ليلة السبت احتياطا ويقفوا يوم السبت أيضا . فبينا هم على ذلك إذ دخل الركب الشامي فأخبروا برؤية الهلال ليلة الخميس وانه ثبت عند قاضيهم فبنوا على ذلك ووقفوا يوم الجمعة ونفروا ليلة السبت على العادة " اهـ .

وكيف نقول لأهل البلاد الإسلامية - على الأقل القريبة من بلاد الحرمينالتي قد ثبت رؤية هلال شهر ذي الحجة عندهم برؤية مشتهرة أو متواترة ، شرعية صحيح لا مطعن فيها ، ولم تكن ممتنعة أو مستحيلة بأي وجه من الوجوه ، كيف نقول لهم أن رؤيتكم غير معتبرة لأن بلاد الحرمين لم يثبت عندهم رؤية الهلال إما بسبب غيم أو ضباب أو غبار أو نحوها ، أو لأن رؤية عموم بلاد الإسلام ما خلا بلاد الحرمين غير معتبرة ، وأن هلال شهر ذي الحجة حكر ومخصوص فقط لبلاد الحرمين . فهذا وربي حكم لا يقبله شرع ، ولا عقل ، ولا حس .


المسألة الثانية :
هل يوم عرفة علم على الزمان بحيث يتعلق حكم الصوم وفضله على يوم التاسع سواء وافق وقفة الناس بعرفات أم لم يوافق ، أو أنه علم على المكان وهو يوم وقوف الناس بعرفة ؟

والراجح :
 أن هذه المسألة قد تحتمل الأمرين ، ولكن الذي يظهر والله أعلم أن احتمال كونها علم على الزمان هو الأقرب .

قال الخرشي المالكي في " شرح مختصر خليل " : " والمواسم جمع موسم الزمن المتعلق به الحكم الشرعي ولم يرد بعرفة موضع الوقوف بل أراد به زمنه وهو اليوم التاسع من ذي الحجة ، وأراد بعاشوراء اليوم العاشر من المحرم " اهـ .

و خلاصة رأينا في هذه المسألة ونحوها :
 أننا نرجح عدم اعتبار اختلاف المطالع في هذا الشهر وفي غيره من الشهور وأن الخطاب في الرؤية موجه لعموم المسلمين ، فمتى رأى المسلمون الهلال في أي بلد لزم بقية المسلمين الأخذ به في الصيام والفطر والحج ، سواء اتفقت ديارهم أم اختلفت ، وسواء تقاربت أم تباعدت ، لأن المسلمين أمة واحدة ، وديارهم ديار واحدة .

وحتى تتوحد أمة الإسلام على ذلك ، فإنه ينبغي على أهل كل بلد أن يعملوا بمقتضى ما يثبته المختصون من لجان الفتوى أو التحري المخولة من قبل الحاكم ، ولا يتفرقوا فيما بينهم ، فإن كان لا يمكن للأمة أن تتفق حول هذه المسألة فلا أقل من أن يتفق أهل البلد الواحد على ذلك .

وعليه نقول : أن اليوم التاسع من ذي الحجة في كل بلد سواءً وافق الوقوف بعرفة أم لم يوافق هو اليوم الذي تتعلق فيه أحكام يوم عرفة وفضله فيه بإذن الله تعالى .

لا حَرَمَ الله أجر صيام يوم عرفة وفضله على المسلمين ، ففضله سبحانه وتعالى واسع ، فهو بر جواد كريم ، عدل واسع باسط ، والأعمال بالنيات ، ولا يضيع الله أجر من أحسن عملاً .

هذا آخر ما تيسر جمعه حول هذه المسألة ، فإن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان ، والله أسأل أن ينفع به ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وكتبه :
أبو محمد أحمد بن محمد بن خليل
بتاريخ : 29 / 12 / 1429 هـ ، وفقاً لرؤية سلطنة عمان .
و تاريخ : 1 / 1 / 1430 هـ ، وفقاً لرؤية المملكة العربية السعودية .

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Get The Fixed Menu Gadget
Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
back to top