
إن هذا الشهر الكريم ماهو
إلا دورة تدريبية من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، للتدرب على العمل الصالح
والتوبة من المعاصي والذنوب، يتدرب المسلم فيها على الصيام والقيام والإنفاق
والإحسان والبذل والعطاء ، ويتدرب أيضا على ترك المحرمات وغض البصر وصيانة السمع
عن الحرام وكف اللسان عن السب والشتم والغيبة وغير ذلك من المعاصي والآثام، كما يتدرب
فيها على الصبر والتحمّل وكظم الغيظ فهذا الشهر شهر مراجعة وتفكير وتأمل ومحاسبة
للنفس، إذ حينما يمتنع الإنسان في هذا الشهر الكريم عن الطعام والشراب، وبقية
الشهوات التي يلتصق بها يوميًا، فإنه يعطيه ذالك فرصة للانتباه نحو ذاته ونفسه،
وتأتي تلك الأجواء الروحية لتحسّن من فرص الاستفادة من هذا الشهر الكريم، فقيام
الليل مثلاً فرصة حقيقية للخلوة مع اللَّه، عز وجل: (وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ
بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودا
فحاجة الإنسان إلى التأمل والمراجعة لنفسه في هذا الشهر الكريم
لها أهمية قصوى مراجعته لأفكاره وقناعاته، فيسأل
نفسه عن مقدار الحق والصواب فيها، ليستطيع تغيير الأخطاء والانحرافات ، مراجعته
لصفاته النَّفْسِيَّةَ التي تَنْطَوِي
عليها شخصيته، كَيْفَ سَيَكُونُ رَدُّ فِعْلِه اتجاه من أساء إليه بسبه أوشتمه ؟ هل
سيرد" إني امرء صائم" وكيفَ يقَرِّرُ لَوْ تعارضت مصلحته الشخصية مع
المبدأ أو المصلحة العامة؟وتأتي أهمية هذه المراجعة للنفس في كون الصائم ينبغي له
أن يقرر بعدها إصلاح كل خلل نفسي عنده، وأن يعمل على تطوير نفسه، وتقديمها خطوات
إلى الأمام وأن يراجع سلوكه وتصرفاته مع الآخرين، بدءًا من زوجته
وأطفاله، وانتهاءً بخدمه وعماله، مرورًا بأرحامه وأصدقائه، وسائر الناس، ممن يتعامل
معهم أو يرتبط بهم فهذا الشهر الكريم هو خير مناسبة للارتقاء
بالأداء الاجتماعي للمؤمن، ولتصفية كل الخلافات الاجتماعية، والعقد الشخصية، بين
الإنسان والآخرين، وما أعظمها من نتيجة لو تحققت خلال هذا الشهر
الكريم، وما أكبر منزلة تلك القلوب التي تستطيع أن تتسامى على خلافاتها، وتتصالح
في شهر القرآن، من أجل الحصول على غفران اللَّه؟ من هنا يحتاج الإنسان حقًا إلى
قلب طاهر ونية صادقة كما أن الإنسان قد
تسيطر عليه بعض العادات والسلوكيات الخاطئة، ومهما كان عمقها في نفسه، والتصاقه
بها، فإن الإرادة أقوى من العادة، وشهر رمضان أفضل فرصة لنفض وترك العادات السيئة
الخاطئة فعلينا أن نستفيد من أجواء
هذا الشهر المبارك في المكاشفة مع الذات، وإصلاح أخطائها وعيوبها، وسد النواقص
والثغرات فيها فالمُؤمِنَ الصَّادِقَ عَالي الهِمَّةِ، عَظِيمُ الرَّغبَةِ فِيمَا
عِندَ اللهِ مِنَ الجَزَاءِ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ لا يَقنَعُ بِالدُّونِ، وَلا
يَمِيلُ إِلى الأَقَلِّ وَالأَصغَرِ وَالأَدنى، بَل هُوَ دَائِمُ التَّطَلُّعِ
إِلى الأَكمَلِ وَالأَحسَنِ وَالأَعلَى، يَستَشعِرُ وَلا سِيَّمَا في هَذَا
الشَّهرِ الكَرِيمِ أَنَّهُ في مَيدَانِ سِبَاقٍ وَمُنَافَسَةٍ وَمُسَارَعَةٍ،
وَزَمَانِ اغتِنَامٍ لِلأَجرِ وَاستِكثَارٍ مِنَ الأَعمَالِ الفَاضِلَةِ، وَلِذَا
فَهُوَ آخِذٌ إِهبَتَهُ مُعِدٌّ عِدَّتَهُ، مُشَمِّرٌ عَن سَاعِدِ الجِدِّ
وَالاجتِهَادِ، مُستَعِدٌّ لِيُسَابِقَ إِلى الخَيرِ وَيُنَافِسَ فِيهِ،
مُمتَثِلاً أَمرَ رَبِّهِ حِينَ دَعَا المُؤمِنِينَ( وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ
مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أَعِدَّت لِلمُتَّقِين) (سَابِقُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم
وَجَنَّةٍ عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ
العظيم) فهذه الدورة توشِكُ أَن تَتَصرم أَيَّامُها سَرِيعًا وَتَنقَضِي لَيَالِيها ،
وَالغَافِلُ في غَفلَتِهِ وَالمُفَرِّطُ في سِنَتِهِ، أَلا فَلا تُغلَبُنُّ عَلَى
مُجَاهَدَةِ النُّفُوسِ عَلَى الخَيرِ، وَتَصبِيرِهَا في مَوَاطِنِ العِبَادَةِ،
وَرَبطِهَا في مَيَادِينِ الطَّاعَةِ، فَإِنَّ بَينَ أَيدِيكُم فُرَصًا
لِلتَّنَافُسِ وَالمُسَابَقَةِ لا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ، وَصُوَرًا جَلِيلَةً مِنَ
القُربَةِ وَالعِبَادَةِ لا يَصبِرُ عَلَيهَا إِلاَّ السَّابِقُونَ
المُجَاهِدُونَ، كَالتَّبكِيرِ إِلى الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَاتِ، وَالحِرصِ عَلَى
الصَّفِّ الأَوَّلِ في الجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ، وَالقُربِ مِنَ الإِمَامِ
وَإِدرَاكِ تَكبِيرَةِ الإِحرَامِ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: في
مارواه البخاري ومسلم "لَو يَعلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ
الأَوَّلِ ثم لم يَجِدُوا إِلاَّ أَن يَستَهِمُوا عَلَيهِ لاستَهَمُوا، وَلَو
يَعلَمُونَ مَا في التَّهجِيرِ لاستَبَقُوا إِلَيهِ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا في
العَتَمَةِ وَالصُّبحِ لأَتوهُمَا وَلَو حَبوًا" ثم
إِنَّ دُونَ ذَلِكَ وَقَرِيبًا مِنهُ عِبَادَاتٍ وَطَاعَاتٍ وَنَوَافِلَ
وَقُرُبَاتٍ، تَحتَاجُ إِلى صَبرٍ وَمُصَابَرَةٍ وَمُجَاهَدَةٍ حتى إذا ما انتهت
هذه الدورة نكون قد عودنا أنفسنا على
الطاعات واجتناب المعاصي والمنكرات، وطبعناها على أخلاق أهل الإيمان لتكون حياتنا
بعد رمضان حياة إيمانية متكاملة
ومما يحز في النفس أن كثيراً من المسلمين لا يستغلون فرصة هذه الدورة ، ويستفيدون منها بالمسارعة إلى الطاعات والتوبة من المحرمات، بل تراه إذا ما انتهى رمضان، انتهت علاقته بالعمل الصالح، وعاد إلى الذنوب والمعاصي، وكأن الله لا يعبد إلا في رمضان
ومما يحز في النفس أن كثيراً من المسلمين لا يستغلون فرصة هذه الدورة ، ويستفيدون منها بالمسارعة إلى الطاعات والتوبة من المحرمات، بل تراه إذا ما انتهى رمضان، انتهت علاقته بالعمل الصالح، وعاد إلى الذنوب والمعاصي، وكأن الله لا يعبد إلا في رمضان
·
0 التعليقات:
إرسال تعليق