الحر
في منهج الأولين ، وفي نهجهم و في ميزانهم
هو ذاك الرجل الذي يحفظ الود ، ويرعى حق الصحبة
، ولا ينسى الفضل لأهله ، وإن قلّ حجمه ، أو خف وزنه ، بل تراه يحرص على أن
ينسب الفضل لأهله ، ولا يكفر بساعات الصفاء واللقاء ، ولا بأيام التزاور والتواصل
، غايته أن يقيم العدل، ولو على نفسه ، ممتثلاً أمر ربه: " ولا يجرمنكم شنآن
قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " .
فالأحرار
هم الذين لا يحملون حقداً ، ولا يفجرون عند الخصومة ، ولا يستغلون معلومة بسبب
معرفة سابقة ، ولا يبيحون سراً لأصدقاء الأمس ، ولا يصرمون وداً لأقل الخصومات،
ولا ينقلب الأصحاب في ميزانهم إلى أعداء ، مهما بلغت شدة الخصومة .
فالأحرار
لا يعرفون طريق الغمز ، ولا يسلكون دروب اللمز ، يصونون ألسنتهم من الوقوع في مثل
هذه المزالق التي لا تليق بالأحرار .
وقد
ثبت بما لا يدع مجالاً للشك ، أن الذين تنـزلق أقدامهم في مثل هذه المزالق ، ليسوا أحراراً أبداً ، وقد شهد بذلك الرسول
الكريم - صلى الله عليه وسلم - حين بين أن من علامات المنافق ، الفجور عند الخصومة
، بمعنى أنه لا يراعي عند الغضب والخصومة ، حرمة صحبة ، ولا ساعات التواصل والأخوة
.
الأحرار .. هم الذين
لا يجعلون من صديق الأمس - بسبب خلاف في الرأي ، أو سوء في الفهم ، أو خلاف في غرض
من أغراض الدنيا – لا يجعلون منه هدفاً ، يصوبون نحوه كل سهام البغي والظلم
والعدوان ، فلا يدعون سهماً في جعبة إبليس إلا وقذفوه به ، غير نادمين أو آسفين .
الذين لايحفظون الود وإن
كانوا في ميزان البعض كباراً ، فهم صغارفي فعالهم ، صغار في طباعهم ، ولو كانوا
كباراً حقاً ، لصدق فيهم قول الشاعر :
لا يحمل الحقد من تعلو به
الرتب
ولا ينال
العلا من طبعه الغضب
وقبل ذلك ، فإن
الأحرار تسمو بهم أخلاقهم ، وتعلو بهم هممهم ، وتزكو بهم أنفاسهم، وتمنعهم من هذه
الأفعال الشنيعة خصالهم الحميدة ، ومنابتهم الكريمة .
وإن كان هذا العقوق
الأخلاقي ، والنكران الإيماني ، لا يليق بالعامة من الناس ، فإنه في الخاصة منهم أكثر شناعة وفضاعة ..!!
فلا يليق بالأحرار أن يغمزوا ويلمزوا ؟!
أو أن يحقدوا ويدفنوا
؟!
أو أن يفتروا ويكذبوا
؟!
أو أن يغيروا الحقائق
، ويقلبوا الموازين ؟!
أو أن يشهروا بأحد أو
جماعة .. كانت بينهم بالأمس علاقة كريمة ، وصحبة جليلة
كان الحسن البصري يقول: " إخواننا أحب إلينا من أهلنا
وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا ، وإخواننا يذكروننا بالآخرة ".
رحم الله ذاك الزمان ،
الذي كان يتبوأ فيه الأخ في الله مرتبة عليّة في النفس فيؤثر عليها ويقدم ، ويحل
في سويداء القلب فيُتمنى له ما يحب وأكثر .
شاعر ذاك الزمان أوصى
مشددا ومذكرا بأهمية الأخ في الله في كل ميدان فقال :
أخاك أخاك فإن من لا
أخا له كساع
إلى الهيجا بغير سلاح
فمن يدرك هذه الحقيقة
؟! فيعمل على تأصيلها ، ويسعى لتجذيرها ، حتى تمتد في أعماق القلوب جذورها ، وتشمخ
في العلياء أغصانها ، قوية متينة ، عصية حصينة ، لا تطالها سهام البغي والعدوان ،
ولا تدميها قذائف الأهواء ، أو تميتها الأطماع ، أو تعكر صفوها اختلافات وآراء .
رحم الله زمان الأولين
، فقد كان الحفاظ على الأخ ، والتمسك به
من أصول الإيمان وإن شط أو خلط ، أو تجاوز حدود الأدب ، بهفوة أو خطأ ، فلا يقطع
وصله ، ولا يجافي جنبه ، ولا ينسى فضله ، ولا يخفر ذمته ، بسبب ذنب أصابه، أو خطأ
اقترفه ، أو تهمة رمي بها، فتراه بكل ما أوتي من عزم إيماني ذابّا عن عرضه ، ذائدا
عن حياضه ، بليغا في إعذاره، صادقا في الدعاء إليه، ساعيا في التثبت من حقيقة ما
وصله.. متجاوزا مسامحا، يغفر الزلل، ويقبل العلل..
رحم الله زمان التمسك بالأخ ، والتثبت به ،
والحرص عليه ، فقد رمتنا الأيام بمن لا يقدر أهميته ، ولا يعرف حقيقته ، ولا يدرك
فضله ، ولا يصون عرضه ، فسرعان ما يستبد به الغضب لكلمة ، وتتقطع العلاقات لموقف ،
وتتغير القلوب لرأي ، بل ربما حلّت فيها الشحناء والبغضاء ..
فإذا بأخ الأمس ، عدو
اليوم ، تحل غيبته ، ويُسفَّه رأيه ، ويدفن فضله ، وتنسى مآثره ، ويحفر بالألسنة
الطويلة قبره. لندفن بدفنه بقايا الإيمان، ومروءة الأحرار، الذين تأسرهم لحظات
الفضل والصفاء.
أين مثل الأخ الصالح؟!
ليتنا في زمن "
القصعة " التي تداعى عليها "
الأكلة " نقف مع الأولين في تساؤلهم، ثم نسعى في امتثال سلوكهم تجاه الأخ في
الله ، علنا نبرأ مما تئن من وطأته نفوسنا ، وتشكو من شدته وخسته قلوبنا.
فيا أخ الإيمان
والعقيدة !
حتى نحفظ هذه الأخوة
ونحافظ عليها ، ونديم بقاءها ، ونعلي صرح بنيانها :
سامح أخاك إذا خلط
منه الإصابة بالغلط
وتجاف عن تعنيفه
إن زاغ يوما أو قسط
واعلم بأنك إن طلبـ
ـت مهذبا رُمت الشطط
من ذا الذي ما ساء قـ
ـطْ، من له الحسنى فقطْ؟!
0 التعليقات:
إرسال تعليق