
قواعد .. تكفي - في الحقيقة - أن تقوم بدور كبير . إن صحت النوايا ، وصدقت
العزائم ، في النهوض بالأخوة ، والارتقاء بها ..
قواعد .. إن أخذ بها الصف المسلم العامل ، قويت لحمته ، واشتد بنيانه، واتحدت
مشاعره ، وعصمت أعراض أبنائه ، وحفظت من الغيبة والنميمة ، ووقيت من الاعتداء
الآثم ، والآفات القاتلة ، التي تودي بهيبته ، وتذهب ماء وجهه ، وتهدر كرامته ،
حتى يغدو صفاً هشاً متداعياً ، يشرق به الخصوم والأعداء ويغربون ، كما يحلو لهم ..
قواعد.. كفيلة في أن لا يكون في الصف آذان سماعة للمنكرات ، وألسنة ساعية في
الخصومات ، ومجالس تعقد فتكثر فيها المخالفات والسقطات ..
قواعد.. تسمو بنفسك عن الصغائر ، وتضعك في صف عظائم الأمور ، تبحر في بحر
الفضائل ، وتحلق في سماء المكرمات ..
قواعد.. تهتف بك - أيها العامل الكريم - هذا هو الفضل فالزم طريقه ، وهذا هو
النبل فاعرف شروطه ، وهذا هو الصفاء فتفيأ ظلاله ..
قواعد.. تعطر أنفاسك ، وتغسل أدرانك ، وتطهر جوارحك ، وترفع درجاتك
، وتحصن حياتك ، وتنور قلبك ، وتزكي أعمالك .. وتحط بك في ظلال الرحمن ، على منابر
من نور ، يغبطك عليها المقربون من الملائكة والنبيين ..
قواعد ... نشد إليها رحالنا ، وتهفو إليها نفوسنا ، وتطمئن في
ظلالها قلوبنا، وتلامس أشغاف أرواحنا .. فإلى معانيها السامية ، ومواقفها الأخوية..
نختصر في هذه التدوينة على على قاعدتين من هذه القواعد :
القاعدة الأولى : سماحة
اّلأخوة
إن أي دعوة لا تقوم أركانها على أساس السماحة والبشاشة ، ونبل الأخلاق وسموها
، آيلة إلى السقوط والتفكك ، مهما بلغ
شأنها وقوي سلطانها ، وهنا ندرك كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
حريصاً على أن تشاد دولة الإسلام على أساس بنيان قوي ، خلاصته صفاء القلوب ، ونقاء
الضمائر ، وطهارة السرائر ، فلا حقد ولا غل ، ولا شحناء ولا بغضاء ، ولا حسد ولا
غيبة ولا نميمة ولا تنابز بالألقاب
.
" لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم
" ، فعلى هذا يكون العقاب شديداً شديداً ، والعتاب مؤلماً حاداً ، حين يحاول
أحد ما أن يمس هذا الرباط ، أو يعتدي عليه ، ولو بكلمة عابرة .. يقولها صحابي جليل
، له سابقة في الإيمان ، ومبادرة في ميادينه ، يوم فقئت عينه ، في ساح الدعوة إلى
الله ، فلم تشفع له سابقته تلك ، ولا عينه التي فقئت ، ولا مكانته في قومه ، من أن
يلقى التوجيه المؤثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذلكم أبو ذر الغفاري – رضي الله عنه – حين
زل لسانه وقال لأخيه بلال – رضي الله عنه - : " يا ابن السوداء " .
فما أن تصل هذه الكلمة إلى مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تعلو وجهه
الكريم حمرة الغضب ، فيخطب الناس قائلاً : دعوها فإنها منتنة أي العصبية ، ثم
يخاطب أبا ذر : " يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية " .
***
نعم فيك جاهلية رغم أسبقية إسلامك ..
نعم فيك جاهلية رغم إقدامك وتضحيتك ..
نعم فيك جاهلية رغم مكانتك وسادتك في قومك ..
نعم فيك جاهلية ، لأنك مسست رباط المحبة ، وتجاوزت صفاء الأخوة ، ونقضت عهد
البشر والسماحة ..
***
وحين تماسك البنيان على هذا الأساس ، استعصى على كل محاولات التفرقة والمكر
والدهاء والدسائس ، الهادفة لضعضعة وحدته ، وإضعاف قوته ، وما أوتينا إلا حين وهن
رباط الأخوة والمحبة ، فوجد الشيطان وأعوانه إذ ذاك طريقهم وسبيلهم إلى بذر الشقاق
والخلاف في القلوب والصفوف .
ما أحوجنا اليوم لأن تحل السماحة في ساحنا ، وتضع رحالها في قلوبنا ، فقد
اشتاقت القلوب لاستقرارها !!
فكم هي الحاجة ماسة لأخ يفيض بشراً ، ويقطر سماحة ، ويفوح عطراً ، نعم .. فما
أحوجنا لأخ سمح في حواره ونقاشه .. في نقده وتوجيه نصحه ، في أخذه وعطائه ، في
حكمه وقضائه ..
ما أحوجنا لأخ سمح إن أهديت إليه عيوبه وأخطاؤه !!
ما أحوجنا لأخ سمح يقبل العذر ، ويغفر الزلل ، ويسد الخلل ، ويتجاوز الهفوة !!
***
فعلام الغضب والجفاء ؟! علام الحدة
والسخط والانفعال ؟! علام الشدة والقسوة
هل جفت ينابيع الحب ؟! أم هل نضب معين البشر والرفق والسماحة ؟! أم هل طاف على
ألفاظ لغتنا الجميلة ، التي تفيض عذوبة ورقة طائف فأصبحت كالصريم ؟!!
***
فيا هؤلاء جميعاً .. عناق القلوب القلوب .. قبل عناق الأجساد
وتلاق القلوب القلوب .. قبل تلاقي الأيدي .. ورحم الله أخاً سمحاً .. !!
القاعدة الثانية : ليكن حظ أخيك منك ثلاثا
لقد انطلق سلف هده الأمة من الأخوة ،
يرفعون لواءها ، وينشرون طيبها ، ويؤكدون على معانيها ، فهي الوصية التي يحرصون
على بقائها حية في النفوس ، تجمع الشتات ، وتقرب النوافر ، وتوسع المنافذ ، وتسد
أبواب الفتن ، وهي الرابطة الربانية ، التي تغذي القلب ، وتمده بالحياة الهانئة ،
من خلال تواصل القلوب ، والتعالي عن الصغائر ، التي تفسد المودة ، وتذهب الألفة ،
فجاءت الأخوة نبضة حية في قلوبهم ، و دفقة مشاعر وحب ، فسالت على ألسنتهم شهداً ،
طيب المذاق ، جميل المنظر ، همهم كيف يرتقون بهذه الأخوة ، حتى تكون سداً قوياً
منيعاً ، يحافظ على وحدة الصف المؤمن ، ويدفع عنه سهام البغي والظلم ، التي تريد
تحطيم أوصاله ، وتفكيكه إلى أجزاء ومجموعات ، ومن هنا باركوا كل فعل يصب في اتجاه
أخوة صادقة ، وحمدوا كل قول في هذا المسعى ، كما أنهم شنعوا على الذين يتجاوزون
حدودهم ، ويعتدون على هذه الآصرة ، بفعل أو قول ، أو حتى إشارة
فهدا الإمام يحيى بن معاذ – رحمه الله – يوصي إخوانه يوماً ، فيقول لهم :
" ليكن حظ أخيك منك ثلاثاً :
إن لم تنفعه فلا تضره ،
وإن لم تفرحه فلا تغمه ،
وإن لم تمدحه فلا تذمه " .
ما أسهل بنود هذه الوصية .. في عالم التنظير والتأطير
وما أشقها على الذين اتسعت الفجوة عندهم بين القول والفعل ، بين النظرية
والتطبيق!!
لقد ابتلي الصف المسلم في هذه الأيام ، بكثير من المنظرين ، الذين يحسنون
القول ، وليس لهم في ميدان الفعل نصيب يذكر ، يحسنون التوجيه ولا يأخذون أنفسهم به
، وكأنهم خلقوا من أجل أن يعظوا غيرهم ، وهؤلاء هم الذين كان لهم ( الفضل ) الذي
تحولت به الشعائر إلى شعارات ، والعبادات إلى عادات .
فقاعدة هذا الإمام الجليل في الحفاظ على رابطة الأخوة ، تقوم على أساس من
السهل جداً أن يأخذ به كل واحد فينا ، وأن يلزم به نفسه ، فإن لم تفعل الحسن ، فلا
أقل من أن تمتنع عن فعل نقيضه ، فإن كنت لا تقوى على أن تهب في نجدة أخيك ، أو أن
تسرع في مساعدته، أو أن تتحرك في الذب عنه ، فلا أقل من أن تمنع عنه شرك ، وتكف
عنه لسانك، وبمعنى آخر إن لم تقو على الفعل ، فلتقو على الإمساك ..
فهل تجد هذه القاعدة الجليلة سبيلها إلى صف المؤمنين ؟!
وهدا عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه –
يردد على أسماع إخوانه : " أنتم جلاء
قلبي "
نستذكر هذا القول النادر ، الذي يحمل مدلولات عظيمة ، وإيحاءات جليلة ، تؤكد
عظمة الأخوة ، ومكانة الإخوان ، وأثرهم في حياة الإنسان .
هذه الإيحاءات ، وتلك المدلولات تبين أثر الأخوة والإخوان الجلي في القلوب ،
ولقد عاش القوم ردحاً من الزمن ، لا يجدون دواءً لدائهم غير ( الإخوان ) ، ولا
جابراً لعثراتهم غير (الإخوان ) ، ولا
كاشفاً لهمومهم وآلامهم غير ( الإخوان ) ، ولا جلاء لأحزان قلوبهم غير (الإخوان )
، ولا مؤنساً في الغربة وديارها – ودنيانا
كلها دار غربة – غير (الإخوان)، ولا مضمداً للجراح النازفة غير ( الإخوان ) ، ولا
ساعياً في قضاء الحوائج غير (الإخوان)..
نستذكر هذا القول الرائع .. كي نترحم من أعماق قلوبنا ، على ذلك الزمان ، الذي
أدرك أهله - حقيقة وواقعاً - أن الإخوان هم جلاء القلوب ..
فرحم الله زماناً .. كان فيه ( الإخوان ) جلاء القلوب وأنسها وأنيسها ، تطيب
بلقياهم، وتنشط في مجالسهم ، وتنطلق في ميادينهم ، ويزداد عطاؤها ، ويعظم صبرها ،
ويقوى عزمها حين تتصل بهم ..
وهذا ما أكده من جانب آخر الصحابي الجليل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حين
بين أنه لم يبق من روح الدنيا ، أي من سعادتها وكرامتها وأنسها وبهجتها ، غير
التهجد بالليل، وقراءة القرآن ، ومجالسة الإخوان ..
انظر كيف جعل مجالسة الإخوان من روح الدنيا ، أي مما تحيا به الدنيا ، ويصبح
لها به شأن وقيمة ..
ثم انظر إليه كيف جعل مجالسة الإخوان ، كمجالسة الله في القيام والتهجد وقراءة
القرآن، فهذا كله يجلو القلب ، ويحيا به القلب حياة سعيدة ..
فهل ندرك أسرار الأخوة ؟!
ونعيش ظلالها بصدق وإخلاص .. حتى نجني ثمارها ، ونتذوق حلاوتها ، ونسعد
بجمالها وروعتها ..
فمن لم يعشها بهذا الجمال والجلال .. فهو ناقص الإيمان ، عليه مائة علامة
استفهام!!
فلا تزكو الحياة حقيقة إلا إذا كان الإخوان جلاء القلوب ، ومجالسهم زادها ،
وأحاديثهم دواءها وشفاءها ..
يتواصل بإذن الله
0 التعليقات:
إرسال تعليق