
أولا: إشكالية المشاركة السياسية في الإسلام:-
يقوم
التصور الإسلامي على أساس أن الحاكمية والسيادة المطلقة لله تعالى, فكما أن الله
له الخلق كذلك له الأمر , قال تعالى:( ألا له الخلق والأمر )[1] ,وتتمثل هذه
الحاكمية والسيادة الأمرية في الكتب المنزلة ومنها القرآن الكريم الذي يعد مرجعية
لكل تصرفات الإنسان في الكون وتصوراته وتنبثق المنظومة الحياتية للمسلم من خلال
القرآن الكريم وبذلك تكون السيادة الحق لله تعالى باعتباره الآمر الأعلى والإنسان
في الكون
مستخلف
بأمر الله فهو عبدٌ له طوعاً واختياراً كما هو عبدٌ له اضطراراً, فليس هنالك مجال للتنازع حول مفهوم السيادة كما هو سائدٌ في
الفكر الغربي باعتبار أن الحقوق والحريات مقررة في الشرع باعتبارها منح من الله
تعالى والسلطة لاتملك منحها ولا منعها ولا مجال لاستغلال السلطة والإنتفاع بها
باعتبارها تكليفاً وليس تشريفاً والمكلف فيها مسئول أمام الله أولاً ثم أمام
الناس, والأحق بها هو من توافرت فيه شروط القوة والأمانة كل وظيفة بحسبها وأن يكون
ذلك باختيار الأمة ورضاها دون فرض أو إكراه من أحد ودون الاستناد إلى الاعتبارات
الجاهلية, كالاستناد إلى القوة أو العرق, فالقاعدة الأساسية في التصور الإسلامي هي
المساواة في الخلق والتكليف مما يقتضي معه المشاركة الكاملة لأفراد الأمة في
التكاليف الشرعية ومنها إقامة السلطة أداءً لواجب الاستخلاف من خلال نظام الخلافة
القائم على الاختيار والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن خلال ذلك
تتضاءل إن لم تنعدم ما يسمى بإشكالية المشاركة السياسية وذلك لقيام السلطة على
ركنين هما :-
1-
الحاكمية والسيادة المطلقة لله فهو المشرع ابتداءً.
2- السلطان للأمة فلها حق الاختيار في من
يقودها دون جبر أو إكراه مع مراعاة ضوابط الشرع في ذلك وبذلك يتحقق القبول
المجتمعي للسلطة السياسية ومنه تكتسب شرعيتها .
ثانياً:-
مدافعة الاستبداد ومناهضة الطغيان:
المشاركة
السياسية تبدوا أكثر أهمية عندما نعلم أنها نقيض الاستبداد وأنها أفضل وسيلة
لمناهضته ومدافعته ومن هنا تكتسب المشاركة السياسية أهمية خاصة, فما هو الاستبداد
السياسي الذي نريد للمشاركة السياسية أن تمنعه وتقف حائلاً دونه.
تعريف
الاستبداد:-
يذهب
الكواكبي في تعريف الاستبداد بقوله ( إن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان
فعلاً أو حكماً التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب
محققين) [2], وفي دائرة معارف القرن العشرين عرفت الحكومة الاستبدادية بأنها(
الحكومة التي يكون على رأسها ملك مطلق لا تقيد إرادته وزارة مسئولة ولا هيئة
نيابية, وإنما استبدادية لأن الملك يستبد في أمر الحكومة برأيه فلا يستمع لمشورة
أحد)[3].
ومما
سبق في تعريف الاستبداد يمكن أن نجمل معالم الحكم الاستبدادي حتى تتضح الصورة أكثر
على النحو الآتي[4]:-
1-
الحاكم مطلق وسلطته غير مقيدة ولا محدودة بقانون أو سلطة موازية أو فوقية.
2-
انعدام الشورى وانفراد الحاكم بالرأي واعتبار أن إرادته لا يعلوها شيء.
3-
لا رقابة من وزارة ولا هيئة نقابية .
4-
سيادة القمع والطغيان البوليسي وغياب الحريات وعدم ضمان الحقوق الأساسية أو غيرها.
5-
غلبة القوة العسكرية والاستناد عليها في شرعية الحكم.
6-
شيوع الخداع السياسي في ظل السلطات الواسعة.
7-
خدمة المنافع الخاصة بطبقة الحكام ومن يدور في فلكهم وتسخير موارد البلاد في
الملذات.
8-
غياب المشاركة السياسية مع تحكم فرد أو نخبة في الأمور العامة من دون الناس .
9-
يقترب الطاغية المستبد من التأله فهو يرهب الناس بالتعالي والتعاظم ويزلهم بالقهر
والقوة وسلب المال حتى لا يجدوا ملجأً إلا التزلف له وتملقه ... وعوام الناس يختلط
في أذهانهم الإله المعبود والمستبدون الطغاة من الحكام.
10-
الطاغية رجل يصل إلى الحكم بطريق غير مشروع فقد يغتصب الحكم بالمؤامرات أو
الاغتيالات أو القهر أو الغلبة بطريقة ما.
وبهذا
فإن الاستبداد تتعدد مظاهره ومعالمه وتتفاوت مراتبه في السوء والشر ولكن أشد مراتب
الاستبداد كما
يقول
الكواكبي هي (حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش القائد للجيش الحائز على سلطة
دينية) [5].
ولما
كان الطغيان و الاستبداد بهذه الدرجة من السوء التي تجعل الحاكم مطلقاً متألهاً لا
رقابة ولا حساب على أعماله فقد جاءت نصوص الوحي وتعاليمه لإماتة الاستبداد واحياء
العدل الذي يجعل الناس شركاء في إدارة حياتهم في اطار منظومة الشرع الحاكمة على
التصرفات عموماً وقد ذمت النصوص الشرعية الاستبداد والطغيان وامتدحت الشورى وهي
نقيض الانفراد بالرأي والتكبر على الخلق وذلك على النحو الأتي :-
1-
قال تعالى ناهياً عن التكبر في الأرض وذاماً للمتكبرين ( ويوم القيامة تري الذين
كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوىً للمتكبرين )[6], وقال تعالى:(
إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون* لا جرم أن
الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين )[7] , وقال تعالى :( فبئس
مثوى المتكبرين) [8], وقال تعالى:( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً
في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين)[9].
2-
وقد امتدح الله ملكة بلقيس في مشاورتها لقومها وكانت نتيجة المشاورة والتأني وسلوك
طريق الحكمة إسلامها وإسلام قومها مع سليمان, قال تعالى:( قالت يا أيها الملأ
أفتوني في أمري مكنت قاطعة أمراً حتى تشهدون قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد
والأمر اليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا
أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)[10],فالملكيات المطلقة مفسدة للبلاد مذلة للشعوب.
3-
حكم القرآن على الجبابرة والطغاة بالخيبة والخسران, قال تعالى:( واستفتحوا وخاب كل
جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد )[11].
4-
حكي الله قصة فرعون في أكثر من موضع في كتابه لأنه النموذج الأعلى للطغاة
والمتكبرين وكشف عن حقيقة نهجه في دعوى الألوهية ومصادرة الحريات الفكرية ومخادعة
الشعوب وإلهائها وممارسة الإرهاب عليها, قال تعالى عن فرعون ( قال فرعون آمنتم به
قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون
لأقطعن أيديكم وأرجلكم مكن خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين)[12].
ومحصول
القول إذا كان الاستبداد هو الحكم المطلق والتحكم في مصائر الشعوب بالهوى والقهر
والغلبة ودون محاسبة أو ردع من أحد من البشر فإن المشاركة السياسية هي نقيض ذلك,
مدافعة ومناهضة حيث تتأسس على الاختيار الحر من قبل المحكومين والإلتزام بالشورى
في كافة الأمور العامة والقبول بالنقد والمعارضة وتعددية الآراء دون قدسية لرأي
مهما كان قائله إلا بمقدار موافقته للنصوص المقدسة والتأكيد على اكتساب السلطة
شرعيتها السياسية من القبول الشعبي العام وبهذا تظهر أهمية المشاركة السياسية
وضرورتها في حياة الأمم والشعوب وإلا فقدت الشعوب المناعة ضد الاستبداد واستسلمت
للذئاب البشرية من الطغاة حتى لا نعرف ماذا نسمي استسلامها كما قال (أيتيان دي لا
بواسييه) في كتابه كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد ( ولكن ما هذا يا ربي ؟
كيف نسمي ذلك؟ أي تعسٍ هذا؟ أي رذيلة أو بالأصدق أي رذيلة تعسة؟ أن نرى عدداً لا
حصر له من الناس لا أقول يطيعون بل يخدمون, ولا أقول يحكمون بل يستبد بهم, لا ملك
لهم ولا أهل ولا نساء ولا أطفال, بل حياتهم نفسها ليست لهم! أن نراهم يحتملون
السلب والنهب وضرورة القسوة لا من جيش ولا من عسكر أجنبي ينبغي عليهم الذود عن
حياضهم ضده, بل من واحد لا هو بهرقل ولا شمشون, بل هو خنث, هو في معظم الأحيان
أجبن من في الأمة وأكثرهم تأنثاً.... ومع ذلك فهذا الطاغية لا يحتاج الأمر إلى
محاربته وهزيمته, فهو مهزوم خلقة, بل يكفي ألا يستكين البلد لاستعباده, ولا يحتاج
الأمر إلى انتزاع شيء منه بل يكفي الامتناع عن عطائه فإذا أراد البلد ألا يتحمل
مشقة ما فيه منفعته فكل ما يقتضيه الأمر هو الإمساك عما يجلب ضرره.
الشعوب
إذاً هي التي تترك القيود تكبلها أو قل إنها تكبل نفسها بنفسها مادام خلاصها
مرهوناً بالكف عن خدمته.
الشعب
هو الذي يقهر نفسه بنفسه ويشق حلقه بيده, هو الذي ملك الخيار بين الرق والتق فترك
الخلاص وأخذ الغل )[13] .
ثالثاً
: - تحقيق الفاعلية في المجتمع .
تظهر
أهمية المشاركة السياسية في أنها تعمل على تحقيق الفاعلية في المجتمع ونعني
بالفاعلية ما ذهب إليه الأستاذ الطيب برغوث بأنها(القدرة المتزايدة على شحذ وتعبئة
الإمكانات التسخيرية للفرد والمجتمع والأمة والتحكم الوظيفي المتوازن الدقيق فيها,
وحسن استثمارها في تحقيق أفضل مستويات الإشباع المعنوي والروحي والمادي والاجتماعي
الممكن للفرد والمجتمع حتى يؤديا دورهما بكفاءة واقتدار , في مواجهة تحديات
الابتلاء والتدافع, والاستجابة لطموحات التداول والتجديد التي تعطي الأمة وزنها
الحقيقي في المعتركات المحتدمة في الأرض)[14] , وهذه القدرة يعرفها الدكتور حسن
صعب – تبعاً ل(لازويل)- بأنها( المشاركة في التقرير السياسي. فهذه المشاركة هي
التعبير الفعلي عن القدرة السياسية ولذلك يكون المنتظم السياسي أكثر ديموقراطية
بقدر ما يتسع نطاق المشاركة في القرارات السياسية الهامة - وتصيير القدرة
ديموقراطيةً رهين باستبقاء المشاركة في صنع القرارات الهامة-)[15], ويضيف الدكتور
حسن صعب قائلاً( إن المشاركة في التقرير السياسي أي في القدرة السياسية هي حق كل
مواطن في المنتظم الديموقراطي)[16].
وأما
الفاعلية السياسية تعرف بأنها ( الاعتقاد في أن المحكومين في نظام سياسي لديهم
القدرة على ممارسة نفوذ وتأثير على الحاكمين)[17], وبذلك فالفاعلية السياسية هي
مخزن المساندة المنتشرة التي يعتمد عليها النظام السياسي آلياً في الأحوال
الطبيعية عندما يشعر الأفراد أن قدراتهم على التلاعب تسير وفقاً لتوقعاتهم وتظهر
الفاعلية السياسية في ثلاث صورهي( القاعدة - الشعور النفسي – السلوك السياسي)
فطلما قوي أنخراط الفرد نفسًا كلما كان أكثر مشاركة في العملية السياسية , إذاَ
فإن العلاقة بين الفاعلية السياسية والمشاركة السياسية هي علاقة طردية مباشرة
[18].
والفاعلية
السياسية في المجتمع بهذا المفهوم تؤدي إلى مايلي:-
1-
الاستفادة الكاملة من القدرات المسخرة للإنسان باعتباره الكائن المستخلف في الارض
تحقيقاً لمقاصد العبودية واشباع الحاجات الروحية والمادية وزيادة القدرة على
الانجازات من الناحية الكمية والكيفية في كافة المجالات.
2-
الفاعلية هي التي تقرر مصائر الافراد والمجتمعات والأمم وتدفع بها إلى مواقع
الصدارة والتمكين والعزة أو تتقهقر بها الى مستنقعات الغثائية والإمعية والتبعية
الذليلة لتذوق وبال التهميش والاستضعاف والمهانة.
3-
الفاعلية تحقق عملية تأهيل وتدريب الافراد وصناعة القادة المؤهلين لقيادة
المجتمعات, وتعمق المشاركة السياسية وزيادة نشاطات الافراد في العملية السياسية
روح المسئولية الاجتماعية ويعني ذلك الاحساس بأنه ينبغي الا تتعارض المصالح الشخصية
مع المصالح العامة وأن يدرك الإنسان بأن عليه واجباً في الحياة من خلال استخلافه
في الأرض وأن هذا الواجب لا يسقط إلا بأدائه فيحفز فيه ذلك روح المشاركة وهذا
الاحساس بضرورة المشاركة السياسية ووجوبها أساس لكل سلطة ونظام سياسي وينمو من
خلال اهتمام الامة بالفروض الكفائية التي يشترك مجموع الامة في تحقيق الامر
المطلوب بما يؤدي إلى حصوله على الوجه المطلوب وبالقدر المطلوب من المكلفين ضماناً
لتفوق الامة وحرصاً على أداء رسالتها في الوجود.
4-
الفاعلية تحقق التجديد والإبداع وتبعد عن المجتمعات شبح الجمود والتقليد والشيخوخة,
وعلى ضوء الابداع والتجديد تتأسس عملية الازدهار والعمران البشري التي هي مقصد من
مقاصد الوجود الانساني على الأرض والمعبر عنها قرآنياً بـ(الاستعمار) قال تعالى(
... واستعمركم فيها....) فإذا كانت قضية الإيمان والعبادة تقوم على الإتباع وترك
الابتداع فإن عملية العمران البشري تقوم على الإبداع من خلال البحث والسير في
الأرض واكتشاف سنن النفس والآفاق في إطار المنظومة الإيمانية القاصدة إلى الله
والعابرة إلى الآخرة, وهذا يؤدي إلى استمرارية الأمة وشهادتها على الخلق والدخول
السريع في مراحل المواكبة والمنافسة والمشاركة الفاعلة في عالم يسود فيه منطق
الإقصاء والهيمنة والإلغاء.
5-
الفاعلية تحقق الحرية من خلال تحكم الأفراد في تسيير شئون حياتهم وعدم تسليم ذمام
أمرهم لغيرهم ليتحكم فيهم من خلال النفوذ المالي والسلطوي ثم إدراجهم في سلك
العبودية الاختيارية أو الاضطرارية وتحويلهم إلى شعوب مقهورة مغلوبة.
6-
الإنسان ينال موقعه المناسب على درجات السلم الأخروي الشاسع التفاوت بحسب نوعية
وحجم فاعليته في عالم الشهادة , قال تعالى:( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها
لنبلوهم أيهم أحسن عملاً)[19] وقال تعالى( ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فؤلئك
لهم الدرجات العلى)[20].
7-
الفاعلية هي تجاوب مع قانوني المدافعة والمداولة وهما من أهم القوانين والسنن التي
تمنع من الفساد والإفساد والركود والخمول والرتابة, قال تعالى:( ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.....) وقال تعالى ( وتلك الأيام نداولها بين الناس
....), فالمدافعة بين الحق والباطل والخير والشر والتجديد والتقليد والنشاط والكسل
والأمل والألم والأحسن والحسن يؤدي إلى الفاعلية في المجتمع كما يؤدي إلى التداول
المستمر في الحياة حتي لا تكون على وتيرة واحدة لا معنى ولا طعم لها فالأشياء تعرف
بأضدادها والمدافعة والمداولة هي أساس عملية المشاركة السياسية [21].
رابعاً
:- تحقيق التوازن السياسي
التوازن
السياسي في المجتمعات يحتل أهمية خاصة في العملية السياسية حتى لا يكون الأمر
السياسي حكراًَ ودولةً بين النخب من الأقوياء والأغنياء وأصحاب النفوذ حيث يشكل التوازن
السياسي رادعاً بين مختلف الفئات التي تمتلك القدرة السياسية في المجتمع وهذا
التوازن إما أن يكون توازناً عاماً أو توازناً دستورياًَ, فالتوازن العام هو الذي
نفترض عليه تفاعل المكونات مع بعضها تفاعلاً يؤمن الاستقرار السياسي ولو إلى حين
والمكونات التي تألف العملية السياسية هي الأحزاب والمجالس التشريعة ومؤسسات
المجتمع المدني والفئات المصلحة الأخرى إضافة إلى كافة أشكال الضغوط الداخلية
والخارجية والترابط بين هذه المتغيرات يعني أن جميع أجزاء العملية السياسية تكمل
بعضها البعض وتقرر حركتها حالة النظام السياسي ولذلك ظهرت فكرة التوازن السياسي
لتفسير الوضع الذي تستقر عليه العملية السياسية أو يستقر عليه التفاعل بين
المكونات السياسية من حين لآخر ويفترض في المكونات والفئات التي تحقق نوعاً ما من
التوازن أو تستفيد منه أن تكون حريصة على المحافظة عليه ومقاومة أي قوة تحاول تغييره
وتسعى بعض المكونات إلى المهادنة أو المنافسة أو التكييف بحسب قوتها وحسب الفرص
المتاحة في إطار التوازن السياسي في العملية السياسية وغالباً مايكون التوازن
الداخلي مؤثراً في توازنات القوي الدولية والتي إذا اختلت اختل معها السلم
العالمي.
ونشير
هنا إلى أن توازن القوي العام غالباً مايكون في اطار التوازن الدستوري الذي يقوم
بالتوزيع العادل للقدرة السياسية بين مختلف مكونات المجتمع السياسي وفئاته ويبدو
هذا التوزيع شرطا أساسياً لاحترام القانون وصون الحريات التي يكفلها الدستور
للجميع ويخشى البعض من أن يؤدي التوازن إلى نوع من الشلل السياسي وحتى لا يحدث ذلك
فإننا نشيرإلى أن التوازن لا بد أن يمارس في اطار الاجماع على بعض القضايا
الأساسية كالإتفاق على الدستور المتضمن للثوابت العامة واحترام حق المخالفة في
الرأي في هذا الإطار والتأكيد على مبدأ التراضي والتنازلات المتبادلة تفادياً
لانهيار النظام السياسي نتيجة لصراع القوى وتجنباً لتسلط قوة أوفئة على الفئات
الأخرى وبذلك نتجنب التوازن الجامد لنحيله إلى توازن متحرك.
وخلاصة
القول فإن التوازن العام أو الدستوري يفترض مشاركة عامة من جميع الفئات في العملية
السياسية وإلا اختل التوازن لصالح فئة مستولية أو متطاولة على الفئات الأخري نظراً
لفاعليتها وجمود الآخرين وعند حدوث الاختلال في التوازن غالباً مايظهر الاستبداد
الذي يؤي إلى كافة أنواع الاختلالات في المجتمع بناءً على الشعور بالغبن والظلم
الذي تترتب عليه الثورات التي تهلك الحرث والنسل[22], وقانون التوازن هو قانون عام
تستقر به الحياة ويتحقق به القسط ويدفع به الظلم إذا ماتم إعماله في إطار المرجعية
الشرعية قال تعالى :( لقد أر سلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان
ليقوم الناس بالقسط وأنزلن الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)[23]
خامساً:
نجاح عملية التنمية والخدمة الاجتماعية .
إن
نجاح عملية التنمية والخدمة الاجتماعية في الشعوب رهين بمدى اشتراكها في مختلف
خطوات التنمية, لأن الشعوب هي الأقدر على توصيف مشكلاتها وتحديدها ووضع السياسات
والبرامج لمعالجتها بالمشاركة في تنفيذها ومتابعتها وتقويمها, وهذه المشاركة تؤدي
إلى ترسيخ قيم التعاون والتكافل في المجتمع من اجل تحقيق الخير العام وتنمية روح
المبادرة والاعتماد على الذات وتقليل الاعتماد على المعونات الخارجية.
والمشاركة
من المجتمع تؤدي إلى الرقابة على المسئولين مما يقلل من مساحة التلاعب والفساد
ويكشف للحكومة نقاط الضعف ويشكل لها صمام أمان من الانحرافات.
كما
تؤدي المشاركة من المجتمع إلى تحقيق أعلى درجات المواطنة حيث تنقل المجتمع من
دائرة السكان العاديين أو المواطنين المتفرجين الخاملين إلى دائرة المواطنين
المشاركين الفاعلين وهي أعلى درجات المواطنة وكلما ازدادت مساحة المشاركة في
المجتمع تنموياً واجتماعياً واتسعت رقعة المؤسسات الأهلية والمدنية كلما قوي
المجتمع في مقابل الدولة وقوة المجتمع قوة للدولة لأن قوة الأصل قوة للفرع والدولة
مهما بلغت قوتها لا تستطيع القيام بجميع الأعمال والخدمات مما تحتاج معه إلى
مساندة المجتمع في الانفاق الحكومي وهذا بدوره يؤدي إلى المشاركة في القرار
السياسي[24].
مناقشة
مفهوم المشاركة السياسية :-
لما
كان مفهوم المشاركة السياسية بالصورة التي سبق الحديث عنها من حيث التصور والممارسة
والأصول الفلسفية فإننا بحاجة لمناقشة هذا المفهوم حتى نعرف الفروق والتوافق مع
التصور الإسلامي لنحدد بعد ذلك مدي قبولنا أو رفضنا للمصطلح وذلك بإيجاز حتى لا
نخرج عن المقصود وذلك على النحو الأتي :-
1/
إن مفهوم المشاركة السياسية في الفكر الوضعي ينبع من مفهوم السيادة الشعبية التي
لا تعلوها سيادة وهذا المفهوم وليد ردة الفعل للدين المبدل في أوروبا والذي كان
نتاجه تعطيل العقل واستعباد الإنسان فأراد الفكر الغربي المعاصر تحرير السياسة من
قبضة رجال الدين إلي جانب طغيان الملوك المستبدين فطرحت نظرية السيادة الشعبية حتى
لا يكون هنالك سلطة دينية أو سياسية تتحكم في الشعوب وإرادتها , ولأن كان ذلك حقق
انطلاقة من الاستبداد السياسي والتحريف الديني إلا انه أخرج الإنسان من دائرة
التكليف الرباني الحق القائم على مفهوم الاستخلاف والاستعمار وتحقيق العبودية في
الأرض فتحول الإنسان بذلك إلي أن يكون محور الوجود بدلا عن الله تعالى وبهذا
الاعتبار فإن الإسلام يرفض السيادة المطلقة للإنسان ويقرله بسيادة مقيدة تدور في
إطار السيادة الإلهية أي حاكمية الله قدراً وشرعاً كما سيأتي لاحقاً .
2/
مفهوم المشاركة السياسية باعتباره ينطلق من السيادة بمعناها الوضعي فإنه يدور على
فكرة السلطة والدولة والقانون ويستبطن قيم الصراع وامتلاك النفوذ والسيطرة
والتكييف والحلول الوسط وتحكيم الواقع بينما يرتبط مفهوم السياسة الشرعية بالتوحيد
والاستخلاف والشريعة والمصلحة الشرعية والأمة وبناء عليه فإن المشاركة السياسية في
التصور الإسلامي لا تستهدف النفوذ والسيطرة والإستعلاء لشخص أو طائفة أو أمة أو
شعب بقدر ما تهدف إلي التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان .
3/
بناء علي مفهوم الثنائية بين الدولة والمجتمع القائم على استبطان الصراع على مواقع
النفوذ والسيطرة فإن غاية المشاركة السياسية هي محاولة المجتمع تحقيق الحرية التي
يعتقد أنها معرضة لاستلاب من الدولة والسلطة وتقليص نفوذ الدولة وهيمنتها على
الأنشطة وإبراز دور المجتمع وسلطته وسيادته من خلال المشاركة السياسية وأما غاية
المشاركة السياسية في التصور الإسلامي فهو حراسة الدين وسياسة الدنيا به من خلال
السلطة والأمة وليس هنالك غالب ومغلوب أو سالب ومسلوب إنما هو تنافس على الخير
العام .
4/
المشاركة السياسية في الفكر الوضعي تسعي إلي تحقيق الرفاهية المادية في الدنيا ولا
تلتفت إلي البعد الأخروي الغيبي فالسعادة عندهم هي ما كانت في الدنيا ولعل ذلك
نابعا من التصور العلماني (الدنيوي)الذي تمارس في إطاره المشاركة السياسية في
التصور الوضعي, وأما التصور الإسلامي فإنه يربط بين الدنيا والآخرة ويبحث عن تحقيق
السعادة في كليهما وأن مفهوم الاستخلاف هو ارتباط منهج الهداية والولاية بالشريعة
السماوية التي يرتبط بها رضاء الله في الدنيا والآخرة .
5/
المشاركة السياسية كمفهوم له ارتباط مباشر بالدولة والشعب بالمعني القومي أي أن
الدولة ذات جغرافيا محددة لا تقبل التمدد والتوسع إذا ما حددت معالمها والشعب هو
من يقطن هذه الدولة والدولة المعاصرة هي أقصي ما وصله الفكر الوضعي وهي الغاية
القصوى في التصور الاشتراكي وتحل محل الأفراد في التصور والمذهبية الفردية
الليبرالية[25]
وأما المذهبية الإسلامية فإنها تنطلق من مفهوم الأمة الذي يرتبط ارتباطاً رسالياً
وليس قومياً ومن مفهوم الديار الذي يتمدد بتمدد الأمة ورسالتها حتى تشمل الدول
العالمية ولا تعتبر الدولة المعاصرة هي غاية ما يمكن أن يصله الإنسان بل إن
الإنسان هو محور الرسالة والمخاطب بها والأرض هي مجال الرسالة وميدانها ,
الإنسان حيثما وجد والأرض أينما كانت .
6/
الجوانب الإجرائية في المفهوم والتي تأخذ شكل الوسائل فإن هذه لا حرج في قبولها
والأخذ بها لأنها خاضعة للتجارب البشرية وهي تختلف زماناً ومكاناً وتختلف بأحوال
وأعراف الإنسانية كما يقول الأخ نصر محمد عارف (فالأمم والثقافات تتبادل الوسائل
وتستفيد من بعضها البعض ولكنها إذا تبادلت المنطلقات والغايات تفقد ماهيتها
وهويتها وذواتها وتصبح غير نفسها بحيث لا تكون هنالك حدود تميز أمة عن أخري أو
تفردها بخصوصية معينة ) [26]
ويقول
الإمام السيوطي رحمه الله تعالى (يغتفر في الوسائل مالا يغتفر في المقاصد )[27]
ولذلك
عندما ترتبط المشاركة السياسية بالعلمانية فإنها تتحول من وسيلة أو إجراءات لتفعيل
المجتمع إلى منظور فكري وفلسفي ورؤية شاملة للكون والحياة مما يتصادم مع الرؤية
الرسالية .
وفي
إطار الملاحظات أعلاه يمكننا إطلاق وقبول مفهوم المشاركة السياسية بالضوابط الآتية
:-
(1)
أن تكون السيادة أوالحاكمية للشريعة وأن الأمة تمارس حقها في السلطة في إطار
حاكمية الكتاب وهذا يعني أن حركة المجتمع مقيدة وليست مطلقة ومحكومة وليس حاكمة
وذلك لأن التصور الإسلامي الحاكم فيه هو الله تعالي , الحاكمية صفة من صفات الربوبية
, كما جاء في القرآن الكريم قال تعالي :( إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير
الفاصلين ) [28]
(
إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) [29]
(ألا
له الخلق والأمر)[30]
وبناء
عليه فان الحاكمية لله وحده وإسنادها إلى غيره سواء كان فرداً أو فئة أو حتى
الشعب هو شرك في الربوبية وأعظم أنواع الظلم
قال
تعالى :(ولم يكن له شريك في الملك) [31]
وحاكمية
الله تعالى تكوينية أى أن سنته تحكم حركة الأشياء والظواهر والإنسان حتماً قال
تعالى:(سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) [32]
كما
أن حاكمية الله تكليفية ومضمونها وجوب أن تحكم قواعد شريعته حركة المجتمع قال
تعالى :( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلي الله )[33]
وبناء
علي ذلك تمارس الأمة حقها في السلطة باعتبارها وسيلة تنفيذ أمر الله تعالي ,
يقول لإمام الشاطبى في ذلك :( إن تحكيم الرجال من غير التفات إلي كونهم
وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال , ولا توفيق إلا بالله, وأن الحجة القاطعة
والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره ) [34]
(2)
الابتعاد عن دلالات المفهوم السالبة من حيث الغايات والمنطلقات.
(3)
أن السياسة في المجتمع الإسلامي هي ليست فن الحكم أو السلطة أو فن الممكن إنما هي
طريق مؤدٍ إلى التهذيب والتقويم والإصلاح والاستقامة وبناءً عليه فإن
ساحة العمل السياسي في التصور الإسلامي هي أوسع من مفهوم السلطة والدولة
المعاصرة ليشمل كافة حركة المجتمع في إقامة الدين وعمران الدنيا في إطار
مفهوم السياسة المتقدم ويتوسع معنا بشكل تلقائي مفهوم المشاركة السياسية إلي
هذا المدى .
(4)
أن تكون ساحة المشاركة وميدانها هو الأمة والديار ليس بالمعنى القومي أو الجغرافي
بل بالمعني الرسالي وذلك لأن الإسلام ينطلق من قاعدة مكانية تحددها العقيدة بمفهوم
الأمة الذي ينبثق عن الأم والوجهة والقصد والغاية [35]
والأمة يفيد ذلك الكيان الذي يرتكز في تماسكه على عقيدة إيمانية شاملة
مصدرها رباني ومجالها كافة وجهة الحياة الدنيا من منظور أخروي أو بعبارة أدق منظور
ممتد يصل مابين الحياة الدنيا والآخرة) [36]
وبناء
علي ما سبق يقول نصر محمد عارف :-
فالعالم
الإسلامي طبقا لهذا المفهوم لا يعني منطقة جغرافية معينة ,وإنما يعني الإخوة
العالمية المنبثقة عن مفهوم الأمة التي تجمعها عقيدة التوحيد , وتخلق الوعي
والإنتماء لجماعة واحدة وظيفتها الشهادة على الأمم الأخرى ومحور رسالتها
تحقيق الاستخلاف واستعمار الأرض , بما يعنيه هذا المفهوم من تعاضد وتناصر بين
أطراف جماعاتها , حيث أن ما لديهم من ثروات ومقدرات هي ملك لله . ومن ثم فهي ملك
لهم جميعا[37]
(5) أن تكون غاية المشاركة هو أداء الواجب الرسالي في إقامة الدين وعمران الدنيا وليس
التنافس على عالم الأشياء والماديات, قال تعالي :( وعد الله الذين أمنوا منكم
وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم
الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم امناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر
بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) [38],
وبذالك يتحقق الاستخلاف الاجتماعي العالمي في إطار ثلاثية الفلسفة السياسية
الإسلامية المتمثلة في ( التوحيد – التسخير – الاستخلاف ) وصولا إلي المصير
المحتوم في الآخرة , قال تعالي ( تلك الدار الآخرة نجعها للذين لا يريدون علوا في
الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )[39]
[1]
سورة الأعراف 54
[2]
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد عبد الرحمن الكواكبي تقديم د: أسعد السحمراني
ص38 طبعة دار النفائس
[3]
دائرة معارف القرن العشرين فريد وجدي (2/65) نقلاً عن الاستبداد السياسي في ضوء
القرآن والسنة الأسباب والعلاج د. عبد الحي يوسف ط1 1427هـ 2006م شركة مطابع
السودان للعملة المحدودة
[4]
الاستبداد السياسي ص 24 مرجع سابق والطاغية ص 50 - 51
[5]
طبائع الاستبداد ص 38 مرجع سابق
[6]
سورة الزمر الآية 60
[7]
سورة النحل الآية 22- 23
[8]
سورة غافر الآية 76
[9]
سورة القصص الآية 83
[10]
سورة النمل 32 - 34
[11]
سورة ابراهيم الآية ( 15 -16)
[12]
الأعراف 123 -124
[13]
نقلاً عن كتاب العبودية المختارة د. عبد الرحم ابن عمير النعيمي ص 13 - 17 المركز
العربي للدراسات والأبحاث 2005م
[14]
الفاعلية الحضارية والثقافة السننية الطيب برغوث ص 50 ط1 مركز الراية 1427هـ -
2006م
[15]
علم السياسية د. حسن صعب ص149 دار العلم للملايين ط 8 يوليو 1985م
[16]
علم السياسية ص150 المرجع السابق
[17]
حقيقة التعددية السياسية د. مصطفى كامل السيد وآخرين ص 97 1996م مكتبة مدبولي مركز
البحوث العربية
[18]
انظر حقيقة التعددية السياسية ص 97 – 98 مرجع سابق
[19]
سورة الكهف -7
[20]
سورة طه 75
[21]
قارن بـ: الفاعلية الحضارية ص62 - 107 مرجع سابق
[22]
انظر علم السياسية ص ( 193 - 197) مرجع سابق
[23]
سورة الحديد
[24]
انظر علم الجتماع السياسي د. عمر يوسف الطيب ص 315- 316 عزة للنشر والتوزيع
الخرطوم 2004م
-
[25] القاموس السياسي احمد عطية الله ص91
[26]
- نحو مشروع حضاري نهضوي عربي مركز دراسات الوحدة
العربية - ط1 2001م ص508
-
[27] الأشباه والنظائر ص175
[28]
- الأنعام الآية 57
[29]
- يوسف الآية -40
[30]
- الأعراف-الآية-54
[31]
- الفرقان
[32]
- الأحزاب-62
[33]
- الشورى الآية 10 أنظر الأبعاد المعرفية لمفهوم الاستخلاف
ص25—26 ط 1/ ن مركز التنوير المعرفي
[34]
- الاعتصام 3/ 460
[35]
- راجع ابن منظور ص132—133
[36]
- أنظر الأمة القطب د/ مني أبو الفضل
ص45—46 / 1982م
[37]
- نظريات التنمية السياسية ص99
[38]
سورة النور الآية 55
[39]
- القصص الآية 83
1 التعليقات:
بارك الله فيك موضوع في غاية الأهمية
إرسال تعليق