في مارس من العام الماضي 2014 خرج علينا المتحدث الرسمي باسم تنظيم الدولة أبو محمد العدناني ببيان رسمي صوتي بعنوان(ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) أنكر فيه دعوى أنهم يكفّرون من قاتلهم من المسلمين ويستبيحون دمه وصرح بأن ذالك افتراء عليهم، وأعلن المباهلة بنفي المسألة عنهم ، ودعا بلعنة الله على نفسه إن كان كاذباً في ذلك، حيث قال : (وها أنا أذكر بعضها أُباهِلُهُ عليها، فليُباهلني إن كان صادقاً، فيا أيها المؤمنون أمِّنوا واجعلوا لعنة الله على الكاذبين، اللهم إنّ أبا عبد الله الشامي زعم أننا:.....إلخ)
ثم سرد العدناني الدعاوى التي تنسب إليهم فقال من ضمن ذلك: (وأن الدولة تستخدم الكذب والتدليس للاستدلال على صحة منهجها..، وأن من شيمتها الحلف الكاذب..، وأن الدولة ترى كل مَن قاتلها قد صار محارباً للإسلام خارجاً عن الملة، وأنها تكفّر باللوازم والمتشابهات والاحتمالات والمآلات..)
فنفى وأنكر بأغلظ العبارات أن يكون تنظيم الدولة يكفِّر من يقاتله من المسلمين ويستبيح دمه، وتبرأ من أن تكون مقاتلة تنظيم الدولة من نواقض الإسلام، بل دعا على نفسه باللعنة إن كان كاذباً..
وفي الخامس من هذا الشهر المبارك (رمضان لعام 1436هـ) الموافق22/06/2015 أصدر تنظيم الدولة بياناً رسمياً يتلوه العدناني نفسه، ويعلن فيه تبنيه لما أنكره وتبرأ منه، ويكشف فيه بكل وضوح وصراحة أن تنظيم الدولة يعتقد ذالك الأصل المناقض للشريعة والذي لعن العدناني نفسه إن كان يتبناه وطلب من المسلمين التأمين على دعائه حيث قال في بيانه هذا والذي هو بعنوان "يا قومنا أجيبوا داعي الله" ما يلي:
(فاحذر فإنك بقتال الدولة الإسلامية تقع بالكفر، من حيث تدري أو لا تدري)
هكذا يصرح تنظيم الدولة أن "مقاتلة تنظيم الدولة" من نواقض الإسلام..
وهذا أصل وضعي ماأنزل الله به من سلطان مناقض لفقه الشريعة في باب الدماء ودعوة للتحاكم لغير ما أنزل الله خلافا لما يدعي التنظيم أنه يسعى إليه من تحكيم الشريعة فالعدناني في المباهلة يذكر دعوى (أن الدولة ترى كل مَن قاتلها قد صار محارباً للإسلام خارجاً عن الملة) ويلعن نفسه إن كان يعتقد هذا الأصل الوضعي المناقض للشريعة.. واليوم يكشف أنه يعتقد هذا الأصل الوضعي المناقض للشريعة (فاحذر فإنك بقتال الدولة الإسلامية تقع بالكفر، من حيث تدري أو لا تدري)..
فهذا التساهل في التكفير والمسارعة إلى إنزاله من طرف " تنظيم الدولة" بمن يخالفه والحكم عليه بالخروج من الدين يرجع لوقوع التنظيم في كثير من الأصول التي يقع بسببها الغلط في باب التكفير ومن ذالك
1-التكفير بالظن ومعناه ألا يكون عند الشخص في تكفير أخيه المسلم إلا الظن، ولا يملك بينة يقينية ظاهرة في تكفيره ومثل هذا الصنيع يعد مخالفة ظاهرة لتحذير أئمة أهل السنة وفقهاء الإسلام من أنه لا يصح التساهل في التكفير ولا الاعتماد فيه على حجج ضعيفة لا تؤهل المرء إلى أن يحكم على شخص ثبت له وصف الإسلام بالدليل اليقيني.
وفي النهي عن الاعتماد على الظن في التكفير يقول ابن عبدالبر "القرآن والسنّةُ ينهيَان عن تفسيقِ المسلم وتكفيرِه ببيان لا إشكالَ فيه... فالواجبُ في النّظر أن لا يكفَّر إلاّ من اتّفق الجميعُ على تكفيرِه، أو قامَ على تكفيره دليلٌ لا مدفعَ له من كتابٍ أو سنّة" كمافي التمهيد 17/22
وهذا الحكم من ابن عبد البر من أقوى ما يدل على أهمية التثبت في التكفير ومن أشد ما ينهى عن الاعتماد فيه على الظنون والأوهام.
في تأكيد ذلك يقول ابن تيمية: "ليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة"مجموع الفتاوى 12/501.
وينقل ابن حجر الهيتمي عن أئمة الشافعية بأنهم كانوا يحتاطون كثيرا في باب التكفير فيقول: "ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه؛ لعظم خطره وغلبة عدم قصده، سيما من العوام، وما زال أئمتنا على ذلك قديمًا وحديثًا" تحفة المحتاج في شرح المنهاج 4/84
وهناك صور ظنية يعتمد عليها المتساهلون في التكفير من أعضاء الدولة ومناصريها كثيرة متعددة، ومن أهمها:
- التكفير بالأعمال المحتملة، فنجد هؤلاء يبادرون إلى تكفير إخوتهم من الفصائل المجاهدة الأخرى بمجرد أن يصدر منهم عمل محتمل لمعاني كثيرة ليس متمحضًا في المعنى الكفري البين، كجلوسه وحوارهم مع الكافر المقاتل، بحجة أن هذا الفعل يتضمن الخيانة للمسلمين أو الموالاة للكافر!
- تكفير الطائفة بأفعال بعض أفرادها، فقد تصدر أفعال كفرية من بعض الأفراد المنتسبين إلى طائفة معينة ، فيبادر بعض الأشخاص إلى تكفير كل الطائفة بحجة أن بعض أفرادها كفر.
وهذا من التساهل المحرم في التكفير ومن إتباع الظنون والتوهمات التي ما أنزل الله به من سلطان
-الاعتماد على الأخبار غير المحققة في التكفير ، كحكمهم على عدد كبير من إخوانه المسلمين بالكفر بمجرد سماع خبر قد لا يملكون دليلا على صحته وثبوته ، بل قد يكون مصدر الخبر كافر محارب! ، ومع ذلك يعتمدون عليه ويكفرون إخوانهم المسلمين
2- التكفير باللازم ومعنى هذا الأصل أن يكفر الشخص أخاه المسلم بلازم القول أو الفعل الذي صدر منه، وليس بالقول أو الفعل ذاته
وقد اختلف العلماء في بحث مسألة لازم القول هل هو قول لصاحب القول أم لا ؟! على أقوال متعددة.
والصحيح الذي عليه المحققون من العلماء على أن لازم القول ليس بقول، وأنه لا يصح أن ينسب إلى صاحب القول إذا لم يلتزمه بنفسه.
وأقوال العلماء التي قررت هذا القول كثيرة جدا، ومن ذلك قول ابن تيمية: "الصواب: أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه؛ فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبًا عليه، بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال غير التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبل الكفر والمحال مما هو أكثر، فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها لكن لم يعلم أنها تلزمه، ولو كان لازم المذهب مذهبا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة؛ فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة" مجموع الفتاوى 20/217
فابن تيمية هنا يؤكد على أن لازم الكفر ليس بقول، ثم يؤكد بوضوح على أنه لا يصح الاعتماد على اللازم في تكفير المسلمين، وضرب أمثلة واضحة على ذلك.
وينكر ابن حزم تكفير المسلمين بالمآل - باللازم- ويحذ منه غاية التحذير فيقول: "أما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفرا بل قد أحسن إذ فر من الكفر... فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله ونص معتقده ولا ينتفع أحد بأن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط" الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/294).
ويحذر الذهبي من الاعتماد على اللازم في التكفير وبين الآثار المترتبة على ذلك فيقول: "ولا ريب أن بعض علماء النظر بالغوا في النفي والرد والتحريف والتنزيه بزعمهم حتى وقعوا في بدعة أو نعت الباري بنعوت المعدوم كما أن جماعة من علماء الأثر بالغوا في الإثبات وقبول الضعيف والمنكر ولهجوا بالسنة والإتباع فحصل الشغب ووقعت البغضاء وبدع هذا هذا، وكفر هذا هذا.
ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين وأن نكفر مسلمًا موحدًا بلازم قوله وهو يفر من ذلك اللازم وينزه ويعظم الرب" لرد الوافر, ابن ناصر الدين الدمشقي (20)
ومن الصور المندرجة ضمن التكفير باللازم: تكفير جماعة الدولة لمن يعارضها أويخلفها، بحجة أن من يعارضها يعارض حكم الشريعة!!، وكذلك تكفير من لم يرض بالتحاكم إلى محاكمها ، بحجة أنه لم يرض بحكم الشريعة!! وتكفيرالجبهات والفصائل التي لاتقاتل تحت رايتها
3- التكفير بالأمر غير المكفر
ومعنى هذا الأصل أن يعتمد الشخص في تكفير إخوانه المسلمين على أعمال ليست داخلة في جنس المكفرات أو أن دخولها مشكوك فيه ولا يعتمد على بينة ظاهرة.
وقد ذكر أئمة أهل السنة على أنه لا يجوز للمسلم أن يدخل شيئًا من الأعمال في جنس المكفرات إلا بدليل بين ظاهر لا لبس فيه، وكل أقوالهم التي تدل على وجوب الاحتياط في التكفير تتضمن بالضرورة الدلالة على وجوب الاحتياط في تحديد الأعمال المكفرة.
4- التوسع في تطبيق قاعدة من لم يكفر الكافر
ومعنى هذا الأصل أن بعض الأشخاص يترجح لديه كفر عدد من المعينين، ولكنه لا يقتصر على ذلك وإنما يحكم بالكفر على كل من لم يكفرهم.
وقاعدة تكفير من لم يكفر الكافر مشهورة عند العلماء، وهي أصل صحيح مجمع بينهم وقد قرره جملة من الفقهاء، ولكنهم في الوقت نفسه يؤكدون على أن هذا الأصل ليس مطلقًا وإنما هو مقيد بشروط محددة، مثل أن يكون كفر الكافر ثابت بنص شرعي بين أو بإجماع قطعي لا لبس فيه ولا اضطراب، وأما إذا كان كفر المعين ليس ثابتًا بنص شرعي وبإجماع قطعي لا لبس فيه فإنه لا يصح تكفير من لم يكفره، وما زال العلماء والفقهاء يختلفون في مسائل كثيرة ، بعضهم يعدها كفرا والآخرون لا يعدونها كفرا ، ومع ذلك لم يكفر بعضهم بعضًا
وصور الغلط التي تندرج تحت هذا الأصل كثيرة ومن ذلك حكم جماعة الدولة بالكفر على كل من يخالفها في أحكامها ولم يقاتل تحت رايتها كما صرح العدناني في قانونه الوضعي المخالف للشرع (فاحذر فإنك بقتال الدولة الإسلامية تقع بالكفر، من حيث تدري أو لا تدري)
0 التعليقات:
إرسال تعليق