
كثيرة هي الأخطاء التي يتعرض لها الداعية ، من إخوانه في الصف الإسلامي ، الذين تباينت وجهات نظرهم ، واختلفت أفهامهم ، وتعددت مشاربهم ، فالحركة الإسلامية الكبيرة ، التي تضم في صفوفها جماعات وأحزاباً وأفراداً ، لكل منهم مشربه ، وبحكم تعصب كل صاحب لصاحبه ، وجماعة لفكرها وقادتها .. تولد بينهم ، وحتى على صعيد التنظيم الواحد تنافس مذموم ، أودى بهيبتهم ، وأغرى بهم خصومهم ، وأذهب ريحهم ، وأخر النصر عنهم ..
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ،
واحد من الدعاة الكبار الذين كثر خصومهم ، من أبناء جلدتهم في الصف الإسلامي ،
وتنوع إيذاؤهم ، وتعددت وسائلهم في المكر والخديعة للإيقاع بالشيخ الجليل، فحاكوا
المؤامرات ، وزوروا الحقائق ، ونسجت أخيلتهم المريضة ، ونفوسهم الخبيثة ، الأكاذيب
والافتراءات التي كان من نتيجتها سجن الشيخ .
فماذا كان موقفه من هؤلاء ؟ وبأي شيء
أمر أصحابه ، الذين ساءهم ما أصاب شيخهم ظلماً وبهتاناً ؟؟
هذه رسالة أرسلها لهم من سجنه ، تجيب
على أسئلتنا ، وتدل على ما كان عنده من فقه عظيم، وخلق كريم ، وفهم دقيق ، وحرص
عميق على دماء المسلمين ، ووحدة صفهم ، وصفاء قلوبهم ، فقال لأصحابه من سجنه :
" تعلمون رضي الله عنكم - أني لا
أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين ، فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً ، لا ظاهراً ولا
باطناً ، ولا عندي عتب على أحد منهم ، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة
والإجلال ، والمحبة والتعظيم أضعاف ما كان ، كل بحسبه ، ولا يخلو الرجل : إما أن
يكون : مجتهداً أو مخطئاً أو مذنباً :
فالأول مأجور مشكور ، والثاني مع أجره
على الاجتهاد معفو عنه ، والثالث فالله يغفر له ، ولسائر المؤمنين ..
لا أحب أن يقتص من أحد بسبب كذبه علي ،
أو ظلمه أو عدوانه ، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين ، وأريد لكل مؤمن من الخير
ما أريده لنفسي ، والذين ظلموا وكذبوا هم في حل من جهتي ".
إن هذه اللفتة الجميلة الرائعة ، من
شيخ الإسلام ، تستحق وقفة تأملية طويلة من دعاة اليوم ، وأتباع الإسلام ، الذين
سرعان ما تتحشرج نفوسهم ، ويحتد قولهم ، وينبو طبعهم ، ويتعالى صوتهم ، وتضيق
الدنيا في وجوههم ، وتعلو حمرة الغضب جباههم ، بسبب كلمة عابرة ، لمجرد أنها جارحة
، أو موقف مقصود أو غير مقصود .. يريد أحدهم أن يقيم الدنيا ولا يقعدها ، مستخدماً
كل ما في قاموس الغلظة والفضاضة من ألفاظ نابية جارحة .. تعمق الجرح .. وتشق الصف
..
فكيف لو أن الأمر تجاوز حدود الكلمات
العابرة .. والمواقف الزائلة ..؟؟!!
بقي أن أقول من وحي موقف الإمام الكبير
، إن الكبار العظام لا يحملون الحقد ، ولايعرفون طريقه ، وصدق الشاعر ( الجاهلي )
عنترة بن شداد :
لا يحمل الحقد من
تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب
0 التعليقات:
إرسال تعليق