وقفة مع سر تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم لحال المسلمين في زماننا بـ ( القصعة ، والغثاء ).
روى أبو داوود في السنن من حديث ثوبان قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل
ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن
الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل
يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت
وضعنا النبي صلى
الله عليه وسلم أمام صورة حركية مدهشة ، يمثلها بقوم جياع شرهين يبحثون عن
وليمة باردة سهلة يأكلونها، وعندما يجدون هذه الفريسة؛ يقف كل واحد منهم
على مشارف الطرق ويذهب إلى النوادي والمحافل يدعو الأمم والفرق والأفراد ،
بينما الداعي إلى الطعام لئيم حاقد تأصل فيه الشر حتى صار معدناً له ،
وتأمل هذا التشبيه الأول للمسلمين بالقصعة ، الغنيمة الباردة .. التي
يهيئها صاحبها بالنسق الذي يسيل لعابه ويتحكم بشكلها وطعمها ، والقصعة بين
يديه مستسلمة تنتظر موعد أكلها.
إن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم
تداعي الأمم بتداعي الأكلة ليوحي بأن نفسية الأكلة انطوت على شراهة
واندفاع شديد نحو القصعة يغذيها جوع دموي دفين .
ولعل هذا ما أدى
بثوبان رضي الله عنه أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب التداعي ، هل
هو من القلة حتى استخفت هذه الأمم بالمسلمين واستهترت بما معهم؟ .
فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم جواب الحكيم الذي يفتح مدارك الوعي
الإيماني في قلب وعقل المسلم حتى لا يكون ثغرة يؤتى من خلالها على المسلمين
وبلادهم فيكون سبباً لذلة إخوانه .
نعم ليست القلة هي السبب ، ألم تر
إلى المسلمين في بدر لقد كانوا قلة ، وكذلك في الأحزاب تداعى الجمع عليهم
ولم يحقق الله آمال الكافرين في المسلمين مع أن المسلمين قلة ،إذن ليس
للعدد وزن ولا قيمة عند الله ، ولم يجعله الله السبب الرئيس للانتصار في
المعارك.
بل المسلمون عندما تتداعى الأمم عليهم يومئذ كثير ، ولكن ..
هم غثاء كغثاء السيل ، تأمل أخي المسلم هذا التشبيه الثاني للمسلمين
بالغثاء وهو ما ارتفع على وجه الماء وحمله السيل من الوسخ والجيف والأعواد
.... مما لا ينفع الناس ولا يقوم به شيء ، ومعلوم أن الغثاء تبع للسيل
الجارف لا يقوى على المصادمة ولا خيار له في الطريق الذي يسلكه مع السيل ،
بل شأن هذا الغثاء السمع والطاعة من السيل الذي يحصد كل ما يتعرض له .
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب هذا الاستسلام والانقياد الأعمى مع
معرفة المنقاد أنه ذاهب إلى الهاوية، وكأنه صلى الله عليه وسلم قرأ ما في
نفس كل سامع للحديث السؤال الذي يتداعى إلى النفس : وممّ هذا ؟
فيجيب
الرسول الرحيم بقوله ((ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن
الله في قلوبكم الوهن )) وفي لفظ آخر (( ينتزع المهابة من قلوب عدوكم
ويجعل في قلوبكم الوهن )) ، وفي لفظ : (( تـنـتـزع المهابة من قلوب عدوكم
ويجعل في قلوبكم الوهن )) .
إن هذه الألفاظ تشير إلى :
ـ أن
أعداءنا كانوا يهابوننا ، (( ينتزع المهابة من قلوب عدوكم )) ومثله من
روايات الحديث السابقة ، وهذه المهابة لنا في قلوب العدو سببها الوهن الذي
فيهم ، والذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بـ (حب الدنيا وكراهية الموت) ،
وهذا ما يؤيده الرواية الأخرى للحديث ((ينزع الوهن من قلوب عدوكم ويجعل في
قلوبكم)) .
فالوهن الذي أصاب أعداءنا سببه حبهم للدنيا كما قال تعالى
:(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ).
هذا من طرفهم ، وأما من طرف المسلمين فحبهم للموت كان
يزرع المهابة في قلوب عدوهم ، وهذا ما جعل أعداء الإسلام يحسبوا للمسلمين
كل حساب عندما تراودهم أنفسهم في التورط بالقتال معهم .
ولكن في يوم
التداعي الذي يحدثنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم تتغير الأحول ، وتتداخل
القلوب وتتدخل الأهواء ، ويتحكم الهوى ، وتدخل الدنيا نفوس وقلوب المسلمين
وتصبح المصالح هي الموجهة بدل الإيمان ، وتؤثر الدنيا على الدين ، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
(بل ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتى
إذا رأيت شحاً مطاعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة
نفسك ، ودع العوام ، فإن من وراءكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ،
للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم .) قال عبد الله بن المبارك :
وزاد غير عتبة : ( قيل يا رسول الله : أجر خمسين رجلاً منا أو منهم ؟، قال :
بل أجر خمسين منكم . )
ولكن ثوبان رضي الله عنه سمع بـ ( الوهن )
فانتبه لهذا اللفظ المجمل ، فهناك مرض يصيب الكتف يسمى وهناً ، والضعف وهن ،
والمرض وهن ... فأي أنواع الوهن يصيبهم ؟ ، ثم لكل نوع من الوهن أسبابه ..
.
لكن الجواب أعطى للوهن مدلولاً إيمانياً يشمل كل المعاني السابقة ،
وأضاف إليها أم المعاني ، إنه : حب الدنيا وكراهية الموت ، وعند الطيالسي :
( بحبكم الدنيا .. ) فالباء سببية ، أي بسبب حبكم الدنيا وكراهيتكم للموت .
إنه وهن قلبي ، وهن نفسي ، وهن فكري ، وهن عقائدي تسرب إليكم لتشرب قلوبكم حب الدنيا .
فالعدو يمتلك الدنيا ورفاهيتها ، وأخذ يتحكم بها فينا كما يريد ، ويلوح
بها أمام أعيننا كما يلوح الرجل لكلبه بقطعة لحم ، يزينها له ليستعبده ،
فيلهث الكلب ويسيل لعابه ويرضى لنفسه أن يكون منقاداً لسيده مقبل أن يعطيه
الطعام .
كذلك الذي أشرب قلبه حب الدنيا واستمسكت نفسه بها وظن أن
السعادة فيها ، أخذ يخاف من زوالها من يديه فأتقن سبب تحصيلها ، أتدري ما
هو ؟ ، أن يكون ذليلاً منقاداً في السيل الجارف ، أن يكون إمعة لا رأي له ،
أن يكون ريشة في مهب الريح تتقاذفه الأفكار وتتلاعب فيه العواطف ،أن يكون
سلاحاً يحارب به إخوانه المسلمين في الأرض ويحارب به الإسلام .
هل أدركت معي أخي المسلم سر تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم لحال المسلمين في زمن التداعي بـ ( القصعة ، والغثاء ).
وهل أدركت سر المهانة التي يعيشها المسلمون اليوم ؟ وسر استهانة عدونا بنا وسبب جرأته علينا .
هل وهل .. أسئلة كثيرة تطرح نفسها في كل وقت عندما :
ـ ترى قتل المسلمين في بورما وكشمير وأفغانستان وسوريا وفلسطين والعراق
...... واللائحة تطول ... بجهود دولية وتحالفات رسمية تحت شعار الإنسانية .
ـ ترى من هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ويحملون أفكاراً علمانية يلبسونها ثياباً إسلامية ليستسيغها شباب المسلمين ...... .
وغير ذلك كثير مما ينفطر القلب له ، ونحن الذين يبلغ تعدادنا ملياراً وجاوز الربع مليار
ولكننا كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم غثاء كغثاء السيل .

أبوعبد الرحمن / أحمد ولد الحسن ولد إديقبي
مهتم بالعمل الدعوي والبحث العلمي / رجاءا تابعونا على مواقع التواصل التالية:
Posted in:
0 التعليقات:
إرسال تعليق